بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 8 سبتمبر 2013

مؤرخ المستقبل والكتابة عن عرب اليوم! خالد الحروب


كيف سيكتب مؤرخو المستقبل عن هذه الحقبة التي نعيشها، أي عقود ما بعد التخلص من الاستعمار. إذا كنا نحن، أبناء هذه الحقبة، نختلف بشكل هائل في ما بيننا على تأريخ الأحداث التي نمر بها، ونراها من زوايا مطلقة الافتراق عن بعضها بعضاً، فكيف سيراها مؤرخو المستقبل؟ التاريخ والتأريخ بصورة عامة مسائل غير موضوعية وهي خاضعة لمنظور المؤرخ ذاته ونظرته ومعرفته وفوق ذلك كله انحيازاته المباشرة، أو المُستبطنة. إدوارد كار المؤرخ البريطاني الشهير الذي كتب في أوائل ستينات القرن الماضي كتاب «ما هو التاريخ» يشدد على أن كل مؤرخ هو نتاج السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يعيش فيه ويتأثر به وأدواته المعرفية والتفسيرية. استفز كار كثيراً من زملائه بطروحاته التي نفت سمة «العلم» عن التاريخ وشككت في موضوعيته، ووضعت المؤرخ قيد الشك. فالمؤرخ وعملية التأريخ عموماً ضحيتان للانتقائية ولإعادة ترتيب الحوادث التاريخية كي يتناسب ذلك الترتيب مع تفسير معين محدد مسبقاً يخدم فكرة أو سياسة أو أيديولوجيا. لا يعني ذلك إن كل مؤرخ يكتب بطريقة غير موضوعية عن قصد وتصميم، لكن المؤثرات التي قولبت نظر هذا المؤرخ ورؤيته للأشياء، والأدوات المعرفية المتوافرة لديه التي تتيح له الإطلاع على أجزاء محددة من الحوادث التاريخية تحوّل كتابة التاريخ بطريقة موضوعية إلى مسألة شبه مستحيلة. انتقد كار أيضاً فكرة الاستناد إلى الوثيقة وتقديسها واعتبارها حجر الزاوية في التاريخ و»الدليل» الدامغ على الحادثة التاريخية. وقال إن الوثيقة قد تكون على العكس من ذلك أي «مقبرة» الحقائق وليست «كنزها».
في العصر الراهن تواجه كتابة التأريخ معضلات وتحديات إضافية تتعلق بفيضان المعلومات، أو وفق المصطلح الذي نحت حديثاً، «المعلومات الضخمة - Big Data». مشكلة المؤرخ هنا لم تعد في شح المعلومة والأخبار عنها، ولا في بذل الجهد الكبير للوصول إليها، بل تتمثل في الأمر المعاكس تماماً، أي في فيضان المعرفة وطوفان الأخبار والمعلومات والتحليلات. لكن هذا الفيضان لا يعني توافر كل شيء، بل التغطية على الأشياء والعناصر المهمة الخاصة بحدث معين. فالذي يتم، سواء بقصد أم غيره، هو إغراق الحدث بكم هائل من المعلومات والتحليلات والصور المتلفزة والوثائق بحيث تصبح مهمة المؤرخ شبه مستحيلة. هذا كله من دون الانخراط في جدل التشكيك في أهمية الوثيقة أصلاً ومدى صلاحية الاعتماد عليها كأساس في التأريخ، وفي ما إن كان ذلك الاعتماد يعزز من منهج التأريخ أم يعزز التضليل غير المقصود. مثلاً، هل يمكن أن يوثّق حاكم ما رغبته وسياسته في إبادة جزء من السكان ثم يوثق طرائق التنفيذ؟ وهل يمكن أن يوثّق قادة وسياسيون نياتهم الحقيقية الدافعة لغزو بلد مجاور؟ ما هو موثّق في هذه الحالات تبريرات وتفسيرات مغايرة تماماً وتخفي النيات الحقيقية. كيف نوثّق إذن النوايا والأهداف الحقيقية وراء الفعل والحادثة التاريخية؟
تطبيقاً لذلك لنتأمل كيف يختلف المؤرخون العرب اليوم وكتّابهم على تأريخ ما يعيشون من حقبة ما بعد الاستقلال، والأمثلة اكثر من أن تُحصى. كيف كانت بالضبط مصر الملك فاروق التي انتفض عليها الضباط الأحرار، هل كانت كما أرّخ لها مؤرخو الثورة أو الذين تأثروا بها، أم كانت على شكل مغاير؟ ما الذي حدث، كمثل آخر، في قلب عملية الوحدة المصرية - السورية عام 1958 وأفشلها بعد ثلاث سنوات؟ هناك «تأريخان»يكادان يكونان منفصلين تماماً ينطلقان من رؤيتين متعارضتين، واحدة من أنصار الوحدة وعبد الناصر، والثانية من أنصار الانفصال وخصومه. كيف حدثت حرب 1967 وأي الروايات هي الأدق في مسببات الحرب، أهو استفزاز عبد الناصر لإسرائيل، أم نية إسرائيل المبيّتة للقيام بالحرب عندما تحين الفرصة؟ ما الذي حدث في صدامات أيلول بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، وكيف تراكمت الأسباب وأدت إلى ذلك، ولدينا روايتان واحدة فلسطينية «ثورية» والأخرى أردنية رسمية؟
لكن أكثر المسائل والحوادث التاريخية إثارة من منظور التساؤل عن كيفية تأريخها راهناً ومستقبلاً قد تكون أمثلة «التدخل الخارجي» واستدعاءه والاستنجاد به، سواء في الإطار العربي أم غير العربي. تاريخياً تحفل هذه المنطقة من التاريخ بكل الروايات المتناقضة التي يمكن تخيلها، رغم أن جوهر التدخل الخارجي يكون نفس القصة: حاكم يضطهد شعبه إلى درجة تستفز هذا الشعب إلى الاستنجاد بـ «العدو» الخارجي، أو حاكم يقوم بعملية طائشة في فضائه «القومي» أو «الديني» تستفز جزءاً من هذا الفضاء إلى الاستنجاد بالخارج لردعه. والإشكالية التي كانت تواجه الناس بعامة والمؤرخين بخاصة أن قبول «العدو» دعوة الاستعانة وقدومه سيترافق مع تضحيات كبيرة، ذلك أن للعدو مصالح هي التي تقوده للتضحية بجيشه ومقدراته وخوض حرب باسم الشعب الواقع تحت الاضطهاد. فالموازنة بين مضار ومنافع الاستنجاد بالعدو الخارجي، وإلى أي جهة تميل، تقع في قلب عملية تقليب الحدث التاريخي ثم تأريخه، وهي محط الخلاف الكبير والذي لا ينتهي. وقد اتسع نطاق الاستنجاد حتى صارت له فصول في الفقه الإسلامي تحت باب «حكم الاستعانة بالمشركين»، ما يشير إلى تعدد الحوادث وتكرارها. لكن المثير دوماً هو التأمل في الكيفية التي أرّخ بها المؤرخون أية حادثة «استنجاد» وكيفية تركيب الوقائع وتسلسلها بحيث تقود إلى تفسير معين، أو تخدم فكرة مسبقة التحديد. في التعامل مثلاً مع الغزو الإسلامي لبلدان وأراضي الآخرين نجد أن كثيراً من التأريخ الإسلامي يستدعي فكرة الاستنجاد ويعلي من شأنها في تسويغ تحرك الجيوش الإسلامية لهذا البلد أو ذاك واحتلاله. ووفق التاريخ التقليدي لـ «فتح مصر» أو «فتوح الأندلس» أو «فتوح آسيا الوسطى» فهناك استنجادات دائمة من قبل سكان هذه البلدان، القبط في مصر، أو القوط في الأندلس، أو حواضر في آسيا الوسطى، بالحكام المسلمين ليخلصوهم من ظلم حكامهم المحليين. وفي كتب التاريخ الإسلامي والرواية الإسلامية الكلاسيكية لتلك الحروب ترصد عملية استجابه خلفاء المسلمين وأمرائهم لـ «استنجاد النصارى» بكونها دليلاً على مروءتهم وانتصارهم للمظلوم وإحقاقهم قيم العدل. وهناك تجاهل متعمد لتحليل وتأريخ الدوافع الأخرى والحقيقية وراء استجابات أولئك الخلفاء لدعوات الاستنجاد، إذا افترضنا أنها وقعت وكانت حقيقية. ما يعرفه طلاب التاريخ الإسلامي في المدارس والجامعات العربية والإسلامية هو رواية المؤرخين المسلمين لتلك الوقائع، ولا يدرسون رواية مؤرخين من تلك البلدان والتي في الغالب تكون مختلفة إن لم نقل متناقضة.
كيف سيتعامل مؤرخ المستقبل مع غزو صدام حسين للكويت، وكيف سيرصد تسلسل الوقائع التي سبقت الغزو، وما هي الأهمية والوزن الذي سوف يمنحه لهذا العنصر أو تلك الواقعة في السياق الإجمالي للغزو؟ وكيف سيتم تأريخ تدخل التحالف الغربي مع دول الخليج بهدف طرد صدام حسين من الكويت، والاستجابة السريعة والواسعة للغرب، وموضعة مسألة القدوم من أجل الدفاع عن مصالحه، إزاء القدوم استجابة لمطلب الكويتين لتحرير بلدهم؟ هل كان التدخل الغربي مدفوعاً بهاجس تحرير الكويتيين أم أنه استغل الفرصة للقضاء على الجيش العراقي الذي اصبح قوياً في شبه غفلة من العين الغربية؟ وفي اللحظة الراهنة تقدم الحرب في سوريا ومسألة التدخل الخارجي المتوقع على خلفية القتل اليومي فيها وسقوط أزيد من مئة ألف قتيل جلهم من الأبرياء وتشريد ملايين من أهلها مثالاً طازجاً وتحدياً كبيراً للتاريخ والتأريخ والمؤرخين. أين نضع هذا التدخل من منظور التأريخ وكيف سيتم وصفه: هل هو انحياز القوى الغربية والولايات المتحدة على رأسها لقيم العدالة ووصول الأمر في سوريا إلى درجة لم يعد بالإمكان السكوت عليها، وصار لا بد من الانتصار للضحايا؟ أم هو تدخل هدفه خدمة المصالح الاميركية فقط، وخدمة إسرائيل عن طريق انتهاز فرصة غباء وتوحش النظام القائم وتقديم المسوّغ للولايات المتحدة لضرب البنية العسكرية التحتية لسوريا من مطارات وقواعد وسوى ذلك، وبالتالي إزالة أي خطر سوري مستقبلي عن إسرائيل؟ ليس هناك جواب بنعم مطلقة أو لا مطلقة عن هذه الأسئلة ذلك أن أجزاء متداخلة من النوايا والأهداف والضغوط هي التي تقود إلى سياسة معينة. لكن أين يمكن رسم الحدود من ناحية التأريخ لهذا الحدث، إلى أين يمتد تأثير ضغوط «القيم الإنسانية» في قرار التدخل الخارجي، وإلى أين يمتد تأثير ضغوط المصلحة والأهداف الاستراتيجية؟ مهمة لا يُحسد عليها مؤرخ هذه الحرب سواء كان بين ظهرانينا، أو من أبناء المستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق