بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 سبتمبر 2013

الريادة الإسلامية والمشروع الحواري مع الأديان - حبيب محمد هادي الصدر




رغم ما يلحظ من تباينات طقسية بين الديانات الإبراهيمية إلا أنها تتناسق وفق خط سماوي تكاملي وتعبر عن جوهر إلهي واحد، فنبينا الأكرم (ص) لم يصدع بمشواره الرسالي من فراغ عقائدي  بل بدأه من حيث انتهى إليه سلفه المسيح (ع). وقرآنه الكريم هو إمتداد للعهدين القديم والجديد. ومثلما حث مؤمنيه على تنوير العقل وتحرير الضمير وتنقية السلوك فقد بشرت المسيحية من قبله بالمحبة والسلام. لذا فإن من البديهي أن تتبادل الأديان السماوية الأدوار وتتلاقح التجارب  فمثلا الرهبنة عند المسيحيين قد تحولت الى تصوف لدى المسلمين وفكرة عودة (المسيح) في آخر الزمان تناسلت لدى المسلمين الى عقيدة المهدي المنتظر الغائب ليملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا. وكثير من الأحكام الإسلامية ذات جذور يهودية أو مسيحية كالصوم والصلاة والزكاة وختان الذكور ورجم الزانية.
وقد يظن البعض بأن الحوار بين الأديان هو نشاط فكري تمخض عن حراكات النهضة الثقافية التنويرية الإسلامية في القرن التاسع عشر الميلادي ولكن الحقائق التاريخية تنبؤنا عن فعاليات حوارية إسلامية ــ مسيحية منذ القرون الإسلامية الأولى وفي ظل أجواء تعايشية سلمية تمتع فيها مسيحيو الشرق بهامش واسع من الحريات الدينية ذاك لأن المسلمين بموجب عقيدتهم الإسلامية يؤمنون أصلا بكل الأنبياء الذين أرسلهم الله قبل نبيهم محمد (ص) وبرسالاتهم وبكتبهم وهو ما عد شرطا أساسيا لقبول المسلم في حضيرة المسلمين فيما امتدح القرآن الكريم القسيسين والرهبان لعدم استكبارهم ولإيمانهم ووصف (الإنجيل) بأن فيه (هدى ونور). والمسلمون يعتبرون  دور العبادة لليهود  المسيحيين بيوتا لله يذكر  فيها اسم الله ولذا فهي واجبة الأحترام من قبلهم. ومما شجع على الحوار هو ما أوجدته الدولة الإسلامية من مناخات مواتية لإزدهار العلوم والفلسفة والمنطق وحركة التأليف والترجمة إذ أتيح للمسلمين والمسيحيين معاً الوقوف على تفاصيل كثيرة كانا يجهلانها تجاه بعضهما بفضل ما تيسر من مصنفات ومخطوطات وقاعدة المعلومات ترجم أغلبها من السريانية واليونانية الى اللغة العربية وفي الغالب على أيدي مترجمين مسيحيين عرب.  
  ولكن بواكير الحوار الأولى كانت ذات سمة دفاعية عن عقيدة كل طرف وإثبات صحتها وتفنيد إدعاءات الطرف الآخر ببطلانها. وقد وصل إلى ايدينا نتاج تأليفي ثر دوّن هذه السجالات الفكرية ومازالت المئات من المخطوطات التي تناولتها محفوظة في المكتبات الأوروبية التي حرص المستشرق الألماني (موريتس شنشيذر)  المتوفى عام 1907 م  على فهرستها وتثبيت أماكن تواجدها والتعريف بمحتواها ومؤلفيها ومنها على  سبيل المثال لا الحصر كتاب ( البرهان على صحيح الإيمان ) للمطران (نصيبين) النسطوري عام 1222 م وكتاب (ترياق العقول في علم الأصول) للأسقف (رشيد أبو الخير بن الطيب) عام 1549 م ورسالة المطران (إيليا) عام 1225م التي يستعرض فيها أدلة قرآنية وعقلية على صحة العقيدة المسيحية وكتاب (المصباح المرشد الى الفلاح والنجاح) لمؤلفه (أبو نصر التكريتي) وأورد فيه محاورة للخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان) مع النسطوري (إبراهيم الطبراني).  فضلا عن خطابات متبادلة بين بابوات الفاتيكان مع سلاطين المسلمين كرسائل البابا (أنوسنت الثالث) (1198 ــ 1213 م) والبابا (غريغوري التاسع)  (1170ــ 1227) الى حكام بغداد ودمشق وتونس والمغرب لدعوتهم الى الدخول في الديانة المسيحية.  
  وإذا كانت المبادرات الحوارية الأولى قد انصبت على اقناع الطرف الآخر بالتخلي عن مبدئه وتبني مبدأ الآخر. فمع بداية القرن التاسع عشر الميلادي الذي شهد النهضة الثقافية العربية نشطت المبادرات الحوارية بين مسلمي الأمة ومسيحييها وبدأت تتحول طبيعتها الى التركيز على (الأبعاد المشتركة) و(آفاق العمل الثنائية الممكنة)، خصوصا في مجالات الفكر والأخلاق والإصلاح الإجتماعي والعيش المشترك والتنمية الإقتصادية والمجتمعية والسلم الأهلي ومواجهة الأزمات والتحديات الكونية. إذ أدرك الطرفان ضرورة الإنطلاق من المشتركات الإيمانية والفهم العميق للفحوى الإنساني للرسالات السماوية ونبذ الخلافات البديهية واستلهام ما يمكن استلهامه لبناء مسيرة تعايشية حضارية سلمية قائمة على التعاون والاحترام المتبادل والقبول بالآخر كشريك كامل. كما بدأت تنقشع تدريجيا أوهامهما بأن انتشار رقعة كل دين يمكن تحقيقها عبر ممارسة الضغوط العنفية وليس من خلال القناعات الشخصية. فأكبر بلد مسلم في العالم من حيث الكثافة السكانية للمسلمين وهو (أندونيسيا) لم تحدثنا الوقائع التاريخية أن جنديا مسلما واحدا قد وطأت أقدامه تلك البلاد النائية أو أن قوة إسلامية قد أخضعته للإسلام كرها. ولو لم تكن الدولة الإسلامية تسامحية وذات توجهات تقريبية فكيف قدر لها ان تتسع مدياتها حتى غدت امبراطورية لم تغب عنها الشمس ولما أتيح للموروث الديني والثقافي المسيحي أو اليهودي بالديمومة طوال أكثر من (1400) عاما في كنف المسلمين وهذه الحقيقة تحتّم على جميع المؤمنين تأملها بموضوعية وتجرد وإعادة اكتشافها في واقعنا المتردي الراهن الذي يشهد شحنا طائفيا محموما وعلى نحو غير مسبوق وعلى صعيد العلاقات الاسلامية – الاسلامية فضلاً عن المسيحية ، وهو شحن تغذيه أجندات دولية وإقليمية ذات أهداف سياسية. لاتريد للحوار والوئام القومي والديني أن يمضي قدما نحو بسط مفاهيمه التناغمية الإنفتاحية. 
  ولقد لاحظنا كيف واجه المؤمنون العرب تاريخيا الأخطار والهموم المشتركة بإرادة حكيمة عابرة للتخندقات الدينية أو المذهبية. فالمسيحيون العرب قد آزروا أخوانهم المسلمين الفاتحين للعراق وبلاد الشام ضد المحتلين الفرس والروم البيزنطيين مما ساعد على اندحار أعدائهم حتى اليهود العرب فقد آزروا المسلمين في حروبهم ضد المغول والتتار والإفرنج فيما أظهروا ولاءهم للدولة العثمانية في حربها ضد الروس وفي البلقان. ولم يكترث أي مسيحي عربي لحقيقة ان من يعينون عليهم هم مسيحيون مثلهم . وكم يعتصرنا الألم على ضحايا المسلمين الذين قضوا فيما بعد جراء محاكم التفتيش الاسبانية وحروب الفرنجة الصليبية. تماماً كألمنا على ضحايا المسيحيين الذين سقطوا في ظل الخلافة العثمانية سواء كانوا من الأرمن أو من غيرهم ، ونفس الشعور ينتابنا حيال إبادة النازيين لليهود.
والحق ان مسيرة الحوار قد انطلقت مع اشراقات الدعوة الاسلامية لأنها الوسيلة التبليغية السلمية الوحيدة التي اتخذها نبينا المصطفى (ص) لنشر دعوته وكلنا قرأ مثلاً عن الحوار بين المسلمين المهاجرين الى الحبشة وبين عاهلها المسيحي (النجاشي) والذي بموجبه اتخذ قراره التاريخي بحمايتهم وعدم تسليمهم الى مشركي قريش . لافتاً ومنذ ذلك الحين الى ان خيطاً رفيعاً هو الذي يفصل بين الاسلام والمسيحية بعد ان ارخى سمعه لتلاوات قرآنية مباركة تلاها عليه الصحابى (جعفر ابن ابي طالب) (رض) والثابت تاريخياً ان أول أجراء أتخذه (ص) حين استتب له المقام في (المدينة) هو كتابة مدونة لميثاق رسم أطراً تنويرية انفتاحية للعلاقات الاسلامية مع أتباع الديانات الاخرى عام (622)للميلاد. اعتمد مبدأ الاحترام المتبادل والتشاور الثنائي وضمان الحريات الدينية والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات والمجادلة بالتي هي أحسن والتأكيد على المشتركات الايمانية وهي الوثيقة التي انتجها الحوار الايجابي بين طوائف المدينة المنورة والتي غدت نهجاً متبعاً في زمن الخلافة الراشدة . وقد جسد الاسلام قيمه التسامحية عملياً بعدم مساسه بالايقونات المسيحية التي وجدت داخل الكعبة المشرفة عند فتح مكة وحليته لطعام أهل الكتاب وسماحه للمسلم بالزواج من نسائهم حتى أن نبينا (ص) قد تزوج شخصياً بمسيحية مرة ومرة بيهودية ليقتدي به المسلمون. ومع ان اليهود من (بني القينقاع) قد نقضوا (ميثاق المدينة) عام (2) للهجرة باعتدائهم على عرض إمراة مسلمة في اسواقهم وتآمر (بني النضير) على اغتيال الرسول(ص) سنة (4) للهجرة وخيانة (بني قريظة) للمسلمين في محنة حرب (الخندق) عام (5) للهجرة ..... فأن نبينا الاكرم (ص) لم يطو قط صفحة الحوار معهم وآثر بحنوه المعهود على تجاوز اخطاء الماضي.
ويحدثنا التاريخ عن محاورة جرت بكل ودية بين النبي محمد (ص) وبين وفد نصارى (نجران) في اروقة المسجد النبوي وفيهم ثلاث من كبار رجالات دينهم حول صلة المسيح (ع) بالله هل هي صلة الابن بابيه  أو صلة النبي الانسان  بالله إذ أوضح لهم أن النبي آدم (ع) ورغم انه اول الناس خلقاً وولادته من تراب ومن غير أب وأم ومكوثه في الجنة لفترة إلا أن أحداً لم يقل ببنوته لله رغم أنه بالمقياس العقلي والتاريخي احق من (عيسى) بهذه البنوة. وأشكل عليهم ايضاً إمتلاك أحبارهم حق التحريم والاباحة لاعتقادهم أن ما يحلونه أو يحرمونه على الارض يحله أو يحرمه الله في السماء فكأن الله تابع لمشيئتهم وليس العكس. ورغم هذه الاختلافات اللاهوتية إلا انه (ص) عقد معهم معاهدة سميت بـ( معاهدة نجران) عدّها دعاة حقوق الانسان اليوم مثالية رغم انها سبقت مدونة الامم المتحدة بأكثر من (1400) عاماً.
وفي عهد الخلفاء الراشدين تمتع المسيحيون واليهود بالحقوق والحريات التي حرموا منها في ظل الدولتين الفارسية والبيزنطية وتلمست الكنائس النسطورية واليعقوبية والقبطية إستقراراً لم تألفه حتى في ظل الأباطرة المسيحيين ودأبت اديرتهم المبثوثة على طول طرق قوافل المسلمين على تقديم الخدمات لهم عن طيب خاطر وكانوا عيونا موثوقة للمسلمين تراقب المتربصين لهم . حتى بوأهم خلفاء بني امية وبني العباس والفاطميون والأيوبيون وغيرهم أرفع المناصب في الدولة الاسلامية وجعلوا منهم  وزراء وكتاب وأطباء ومعلمين وخزنة بيت المال وترجموا لهم آلاف المصنفات والكتب اليونانية والسريانية والفارسية والهندية في شتى العلوم والمعارف الى اللغة العربية.فيما تطور هذا النشاط الثقافي على نحو ملفت في زمن الخليفة العباسي (المأمون) الذي أنشأ (دار الحكمة) لهذا الغرض وكان (يوحنا بن ماسويه) و (حنين بن اسحق) و(قسطا بن لوقا) و(اسحق الدمشقي) من أهم الرموز المسيحية التي مارست (الترجمة) كهمزة وصل ثقافية بين الشرق والغرب. 
وتسوق لنا المصادر نموذجاً لمجادلة المسلمين لأحد اهم المفكرين المسيحيين الارثذوكس في العصر الأموي وهو (يوحنا الدمشقي) (670م-750م) الذي لم يعترف بنبوة نبينا محمد (ص) بحجة ان نبوته لم ترد في نبوءات أنبياء سبقوه ولأنه لم يأت بمعجزات فاقت تلك التي اتيا بها موسى وعيسى(ع) باخساً إعجاز الاسلوب البلاغي القرآني كدليل على نبوته(ص) موظفاً ما تعلمه من الفلسفة اليونانية في تدعيم حجته. ورغم هذا النفس السلبي إلا ان المسلمين لم يقابلوه بالتبرم والازدراء بل شكل حافزاً لهم لاستخدام نفس الاسلوب الفلسفي والمنطقي في الرد عليه وعلى الشبهات الاخرى  ومن المفيد ان نورد حواراً جرى بين الخليفة العباسي (المأمون) مع مواطن مسيحي من رعيته إذ سأله عما أوحشه من الاسلام فأجابه المسيحي (أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم) فرد عليه المأمون بأن اليهود والنصارى قد اختلفوا فيما بينهم أيضاً على تأويل التوراة والانجيل بسبب أن الله قد عدمنا لغةً لا اختلاف في تأويل الفاظها فأنس المسيحي بجواب المأمون وزالت منه هواجسه تجاه الاسلام.
لقد أثبتت الوقائع التاريخية أن المسلمين لم يغلقوا يوماً ابوابهم امام الحوار الايجابي المتوازن وحتى في حالات الحرب مع اعدائهم وحرصوا على انسيابية تبادلاتهم التجارية والثقافية رغم أحرج الظروف وأحلك الأزمات. وهو ما حدث فعلاً مع (الفرنجة) خلال الحروب الصليبية الممتدة للفترة من( 1096م-1291م) ومع (التتار). ونتج عن هذه السياسة الانفتاحية انخراط الأخيرين في حضيرة الاسلام وما تبعه من حصول تحول هائل في حياتهم . أما (الفرنجة) فكان تفاعلهم بقدر محسوب لم يتعد حدود تلبية مصالحهم الاقتصادية وإشباع تطلعاتهم العلمية واقتباس ما هو ضروري من علوم المسلمين وفنونهم فيما لم يتقدموا بخطوات فاعلة وواثقة تجاه شراكة ثقافية حقيقية مع العالم الاسلامي إذ ظلت حساسيتهم حاضرة. حياله رغم القواسم المشتركة الكثيرة ما تجلى طوال القرون المتأخرة في أنماط وغايات وعناوين إرسالياتهم التبشيرية و الاستشراقية. ولو أمعنوا النظر في مجريات أحداث الحقبة الصليبية لوجدوا أن احتكاكهم الحضاري بالشرق السلامي الذي أملته الأحداث كانت له اليد الطولى في تمهيد المناخات لتفتح براعم عصر نهضتهم الاوروبية.  ولأيقنوا من أن اللقاء التاريخي الذي جمع الملك (الكامل) الأيوبي بقديس (أسيزي) (فرانشيسكو) الذي تم في ذروة التصعيدات بين (الفرنجة) و(المسلمين) والسلوك التجاوبي الحكيم الذي أبداه الملك المسلم حيال ضيفه المسيحي الايطالي ونواياه الاصلاحية التقريبية لنزع فتيل الحرب وتحقيق السلام هو الذي شكل موروثاً تواصلياً تشجيعياً أغرى الكثيرين من مسيحيي الغرب التائقين الى السلام والمحبة في عصرنا الراهن وعلى رأسهم قداسة البابا(فرنسيس) للسير على خطى قديس (اسيزي) وانتهاج سبيله في تدشين مرحلة جديدة تؤسس لعلاقات اسلامية - مسيحية متطورة تتجاوز إخفاقات الماضي وتبنى على الاسس  القيمية المتشابهة لمد جسور وطيدة من التعاون والاحترام والثقة المتبادلة للنهوض بالمسؤوليات الانسانية المشتركة ومواجهة التحديات الكونية المتفاقمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق