بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 سبتمبر 2013

سورية من الانسداد إلى الانفجار ماجد كيالي


ما كان مقدّراً لسورية أن تصل إلى حال الانفجار السياسي والمجتمعي والهوياتي، لولا الانسداد، الذي تعيش فيه منذ ما يزيد على أربعة عقود، بعد أن تحوّلت إلى مجرّد «سورية الأسد»، وهي الجملة القاطعة والمطلقة، التي تختصر في معانيها ليس غياب السياسة فقط، وإنما غياب مجتمع السوريين برمّته كفاعل سياسي أيضاً.
الدلالة الأخرى، لهذه الجملة، تفيد بأن الطغمة التي حكمت سورية وتحكّمت بها لم تهيمن على السلطة السياسية، وعلى موارد البلاد فقط، وإنما هي هيمنت، فوق هذين، على المجالين الدولتي والمجتمعي، كما على التاريخ والرموز والخطاب العام، ما أدخل هذا البلد في حقبة من الانسداد السياسي والاقتصادي والثقافي.
مع اندلاع ثورة السوريين، في آذار (مارس) 2011، في شكل مفاجئ، ضمن تداعيات «الربيع العربي»، على شكل احتجاجات وتظاهرات واعتصامات شعبية وسلمية، عبّر هذا الانسداد عن ذاته بداية بإنكار النظام لهذه الثورة، واعتبارها مجرّد فبركات إعلامية، وكناية عن مؤامرة خارجية. وقد نجم عن ذلك كله، كتحصيل حاصل، إغلاق النظام أبواب الحلول السياسية، وممانعته التحوّل نحو الديموقراطية، نسبة، أولاً، لاعتباره البلد بمثابة مزرعة خاصّة، وهذا هو معنى «سورية الأسد إلى الأبد». وثانياً، بسبب تنكّره لمشروعية الثورة السورية، ولحق السوريين في الحرية والكرامة. وثالثاً، بسبب تصنيفه المتظاهرين باعتبارهم أعداء، أو أدوات خارجية.
في هذا الإطار يمكن ملاحظة أن النظام اتبع استراتيجيات متعددة لوأد الثورة، ضمنها إضعاف وتفكيك بيئاتها الاجتماعية، وتشويه مقاصدها، ورفع كلفتها السياسية والاقتصادية والبشرية والمعنوية. وقد تأسّست هذه الاستراتيجيات على اعتبار الثورة عملاً عدائياً، وليست عملاً سياسياً، كجزء من الصراع على السلطة، ما تجلى في تعامله معها باعتبارها نوعاً من حالة حرب، تسوّغ له استخدام صنوف الأسلحة كافة، في شكل مفرط، لتحقيق الغلبة والإخضاع، تماماً كما التعامل مع أعداء، وضمن ذلك أتى اعتباره الحواضن الشعبية لهذه الثورة، مناطق عدوّة.
هكذا، تمّت في الأشهر الأولى مواجهة المتظاهرين والمعتصمين والمعارضين بالشبيحة ومنتسبي الحزب ورجال الأمن (باللباس المدنية)، الذين استخدموا الهراوات والأسلحة البيضاء والرصاص، في أعمال التنكيل وإخضاع المناطق المتمرّدة، لإظهار الصراع وكأنه بين الأهالي، أولاً، وثانياً، للإيحاء بأن الصراع ليس صراعاً على السلطة وإنما هو بمثابة حرب أهليّة، مع الترويج لصورة النظام كحام للأقليات والطوائف.
وبعد توسّع الثورة، قام النظام بإقحام الجيش في حربه ضد غالبية الشعب، في تأكيد منه على نزع السياسة، وصدّ الحلول السياسية، لا سيما أننا هنا لا نتحدث عن مشاركة جنود، أو فرق خاصّة من الجيش، وإنما عن مشاركة أسلحة المدفعية والدبابات والطيران (ليس الهليكوبتر وإنما الميغ)، وهي سابقة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها من قبل.
في المحصلة، وإزاء الأهوال التي عايشها السوريون، فقد عرفت الثورة السورية باعتبارها الأبهظ ثمناً، من النواحي البشرية والمادية والمعنوية، إذ ارتفع عدد الضحايا من حوالى 600 شهيد في كل شهر من الأشهر الثمانية الأولى من الثورة، إلى حوالى ألف أو ألفي شهيد، في كل شهر بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 وحزيران (يونيو) 2012، ثم إلى أكثر من أربعة آلاف شهيد في كل شهر منذ تموز (يوليو) 2012 إلى الآن، مع ارتكاب عديد من المجازر الجماعية في الحولة والقبير وتريمسه وداريا، مثلاً. وقد نجم عن ذلك، أيضاً، تدمير البنى المجتمعية، وتشريد ملايين عدة، ممن افتقدوا اماكن سكناهم وموارد رزقهم، مع إحداث تدمير هائل في الممتلكات الخاصة والبنى التحتية.
أيضاً، فإن هذا التحوّل، المتمثّل بإدخال الجيش إلى دائرة الصراع، أدّى إلى بروز ظاهرة الانشقاقات، التي قادت بدورها إلى بروز ظاهرة «الجيش الحر»، وتالياً لذلك تشكيل جماعات الحماية الأهلية المسلّحة، ما نجم عنه انحسار البعد الشعبي والسلمي للثورة، وتحوّلها إلى ثورة مسلحة، لا سيما منذ حزيران 2012، أي بعد سيطرة وحدات «الجيش الحر»، على مناطق في مدينة حلب والشمال وريف دمشق.
فمنذ هذه اللحظة، أي طوال أشهر العام الماضي، بدا أن هذه الثورة تعاني مشكلتين خطيرتين، أولاهما، بروز جماعات تنظيم «القاعدة»، كـ «جبهة النصرة» و «دولة الشام والعراق»، التي صعدت في المناطق المحرّرة تحديداً، وبتغطية من «القيادات» السياسية والعسكرية للثورة، على رغم أن هذه الجماعات لا تعترف بهيكلية الثورة، ولا بأهدافها، فضلاً عن غربتها عن مجتمع السوريين وثقافتهم. ولا شك في أن هذا التطور، الذي ساهم في النفخ فيه «الأصدقاء» والأعداء، أضرّ بالثورة، وبصدقيتها، وأضعف التعاطف العربي والدولي معها، فضلاً عن أنه نمّى المخاوف بين السوريين، لا سيما من المتردّدين والصامتين.
أما المشكلة الثانية، فنبعت من ضعف المرجعية السياسية والعسكرية لهذه الثورة، مع المشاكل التي عانى منها «المجلس الوطني» وبعده «الائتلاف»، وغيره من الإطارات، ومع استفحال تشرذم الجماعات العسكرية ذات المرجعيات المتعددة، التي هي في الأغلب مرجعيات خارجية، تتبع مصادر التمويل والتسليح.
الأنكى أن هاتين المشكلتين كشفتا، أيضاً، افتقاد الثورة استراتيجية سياسية وعسكرية، وضعف صلتها بمجتمعها وبالواقع، ناهيك عن تخبّط إدارتها للمناطق المحرّرة.
فعلى الصعيد السياسي، مثلاً، انحصرت الثورة في هدف إسقاط النظام، مرّة واحدة، وهو هدف بديهي ومشروع، ولكن المشكلة تتمثّل في عدم إدراك أن هذا الهدف يحتاج، ربما، إلى توسّطات وتدرّجات معينة، لا سيما بسبب ضعف الإمكانيات، وحال الدمار المحيقة بمجتمع السوريين، الذي باتت غالبيته خارج معادلات الصراع المباشر. وبديهي أن من غير المعقول لأية ثورة أن تغامر بطرح الحد الأقصى، من دون أن تترك مجالاً لها للتعامل السياسي، لا سيما في المحافل العربية والدولية لتعزيز قوتها، وعزل النظام، وأقلّه استثمار ذلك في تنظيم احوالها، وتمكين مجتمعها من التقاط أنفاسه، واستعادة عافيته.
وعلى الصعيد العسكري، كان واضحاً أن عمل الجماعات المسلحة، على أهميته، لم يكن مبنياً، في الأغلب، على خطة واضحة، وناضجة، ومجدية، بخاصّة أن المناطق التي تمّت السيطرة عليها باتت بمثابة حقل رماية لقذائف النظام من الجو والبر، بالطائرات والدبابات والمدفعية، فضلاً عن تحوّلها إلى معتقلات كبيرة، بتشديد الأطواق حولها.
على ذلك، يبدو جلياً أن هذه الثورة تكابد جراء غياب المرجعية القيادية التي تدرك أن الصراع ليس على الشعارات أو الحق والعدالة، فقط، وإنما هو أيضاً، على موازين القوى والمعطيات العربية والإقليمية والدولية المحيطة، وعلى صورة الثورة في الرأي العام الدولي، وبخاصّة عند السوريين. وقد اتضح، أيضاً، أن هذه الثورة افتقدت القيادة التي تعرف متى تتراجع ومتى تتقدم، ومتى تناور ومتى تحسم، في صراع طويل ومرير يمكن كسبه بالنقاط، طالما يصعب حسمه بالضربات القاضية، بالنظر الى موازين القوى. ومن الأساس لم تتوافر لهذه الثورة القيادة التي تدرك أن الصراعات قد لا تحقق كامل أهدافها دفعة واحدة، وأن ميزة القيادة الحكيمة تتمثل في حسن إدارة الموارد، وتوظيفها على نحو أمثل، وتقليل الأكلاف، لا تبديد الموارد وزيادة الأكلاف البشرية والمادية.
هكذا وصلت هذه الثورة إلى حال من الانسداد، فلا هي قادرة على تعزيز مكانتها، بتحويلها إلى مكاسب سياسية، إزاء شعبها وإزاء العالم، ولا هي قادرة على «التراجع»، أو إبداء بعض المرونة، للحفاظ على مكتسباتها وترتيب أوضاعها.
والواقع، فإن الذهاب نحو الحدّ الأقصى سياسياً وعسكرياً، مع ضعف الإمكانيات، وافتقاد الحدّ الأدنى من التنظيم والقيادة، انطوت على مخاطر جمّة، من ضمنها الارتهان الى الإرادات الخارجية (العربية والإقليمية والدولية)، فضلاً عن أن هذا وذاك جرى، على الأغلب، بسبب هذا الارتهان، والأوهام التي عزّزتها هذه الاطراف عند قوى الثورة، مبكراً، إن في شأن احتمال تدخّل خارجي، على شكل مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، أو على شكل زيادة التسليح، كماً ونوعاً، وهما أمران لم يحصلا بعد عامين ونصف العام، كما شهدنا.
الآن، وبعد استخدام النظام للسلاح الكيماوي، باتت سورية في حال انسداد إزاء الخارج، أيضاً، بسبب استهتار النظام بالمعايير الدولية، ما يعني أن ثورة السوريين ستدخل في حقبة جديدة، لا أحد يستطيع التكهّن بها، أو بمخاطرها، أو بمآلاتها. فمن الواضح أن النظام الدولي الذي ترك النظام يقتل في السوريين، ويدمر عمرانهم، طوال 30 شهراً، على رغم مصرع حوالى 150 ألفاً منهم، وتشريد ملايين عدة، لن يقوم للسوريين بما يفترض ان يقوموا به من أجل أنفسهم. أي أن ما ينبغي الانتباه إليه، أن رد الفعل على استخدام النظام للسلاح الكيماوي، المحظور دولياً حتى في الحروب بين الأعداء، لن يتجاوز ضربة محدودة لبعض القواعد العسكرية، ربما. وأن هذه الضربة، إن تمّت، لا تأتي لتخفيف معاناة غالبية السوريين، ولا نصرة لقضيتهم، وإنما بسبب معايير النظام الدولي ذاته، وكشكل من أشكال صراع الإرادات على الصعيدين الدولي والإقليمي لا أكثر.
لذا، ومع تأكيد أن النظام هو المسؤول الأكبر عن كل ما يجري، وما قد يجري، في سورية، وعن كل نقطة دم، وكل دمعة أم، قبل التدخّل وبعده، فربما أن تنحّي هذا النظام هو وحده الذي من شأنه وقف مسار التقتيل والتدمير في هذا البلد، والذي قد يمكّن من الذهاب نحو مرحلة انتقالية، لإحداث التغيير الديموقراطي، والتمهيد لبناء سورية جديدة.
باختصار، نحن إزاء معادلة مغلقة وحدّية وإشكالية، فإما «سورية الأسد إلى الأبد»، كـ «مزرعة» خاصّة ووراثية، أو سورية للسوريين كل السوريين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق