بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 7 سبتمبر 2013

عجز المؤسسات أمام استباحة الحياة في سوريا -محمد الرميحي



قد تتصف هذه الأسابيع في التاريخ الإنساني بعجز المؤسسات، المحلية والإقليمية والدولية، عن التصدي للاستهانة بالحياة البشرية، والتقاعس عن الدفاع عن المثل العليا الإنسانية. المثال الأوضح في سوريا اليوم، فقد اختار نظام الأسد تقريبا الموعد نفسه، الذي حذر فيه الرئيس الأميركي العام الماضي من استخدام السلاح الكيماوي، كي يذكر العالم بذلك الخط الأحمر الوهمي، فيستخدم توقيت الذكرى الأولى للتحذير، لإرسال كمية من الغاز تقتل مئات المواطنين العزل. لقد تبين على نطاق واسع صدأ المؤسسات المختلفة أمام هذه الاستهانة بالحياة من الديكتاتوريات شبه العسكرية على الأصعدة الثلاث، المحلية والإقليمية والدولية، لقد نسي العالم أصل القضية، وهي أن الشعب السوري يبحث ويطالب بالحرية، التي حرم منها لعقود! كي يتحدث فقط عن الكيماوي، إنه سقوط حضاري بامتياز!

المؤسسات عاجزة أن تأتي بالحرية لشعب تاق إليها، قيل لنا قبل ذاك إن المؤسسات ذاتها قامت بسبب الدفاع عن الحرية. على الصعيد الغربي، كان الموقف ليلة التصويت للسماح باستخدام ردع ما ضد ديكتاتورية النظام السوري في مجلس العموم البريطاني، أقل ما يوصف به، هو الفشل الذريع، فلقد صوت حتى بعض أعضاء الحزب الحاكم في البرلمان (المحافظون) ضد حكومتهم، إرضاء لرأي عام ليس بالضرورة مستنيرا أو حتى آبها بالعدد الضخم من الضحايا البشرية، واضطر رئيس الوزراء، السيد ديفيد كاميرون إلى الرضوخ وصرف النظر عما يقاسيه ملايين البشر في سوريا. أما ليلة الاستجواب التي خضع لها وزيران في الإدارة الأميركية: الخارجية والدفاع، للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي، فكانت إكمالا للعجز والصدأ الذي يصيب ماكينة الديمقراطية الغربية. لقد كان الوزيران يؤكدان مرة تلو الأخرى أن «الجنود على الأرض» و«لا تغيير للنظام السوري» واستخدما كل الحجج المتاحة، العقلي منها وخلافه، لمحاولة التأثير على اجتماع لجنة الشؤون الخارجية. تبع كل ذلك تراجع الحكومة الفرنسية عن عرض موضوع اشتراكها في الحملة ضد سوريا على التصويت في البرلمان الفرنسي، وتراجع كل من ألمانيا (في أسبوع انتخابات عامة) وإيطاليا عن تأييد التدخل لإنقاذ حياة السوريين، وتمكينهم من الحصول على الحرية. باسم الحرية يتقاعس الغرب عن الدفاع عن الحرية! يا لها من مفارقة!
المشهد الغربي السياسي يدعو إلى الشفقة ممزوجة بالامتعاض، كما ينبئ بالتخلي السياسي والأخلاقي للدفاع عن حياة الإنسان وكرامته، بصرف النظر أين يكون. محصلة الأمر أن مؤسسات الديمقراطية الغربية تشيخ أمام خوف مرضي مما حدث في كل من أفغانستان والعراق، وترك الأمر إلى ديكتاتوريين صغار للفتك بشعوبهم.
باراك أوباما، رغم أن القانون السائد يعطيه، بصفته رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة الأميركية، الحق في استخدام القوة متى ما وجد أن مصالح الولايات المتحدة مهددة، فإنه اختار أن يذهب إلى الطريق الطويل في التأني وطلب موافقة الكونغرس الأميركي، مع كل ما يحمل ذلك من تأخير، ومماطلة وتسويات خارج الموضوع الأصلي. إنه خوف مرضي من «الفشل»، وهو ما تتصف به القيادات المترددة، يغطى التردد بشعار الحكمة. لقد وصل أوباما إلى الحكم على قاعدة سحب القوات الأميركية من اشتباكها الدولي في كل من أفغانستان والعراق، كما حصل على جائزة نوبل للسلام «المسيسة» في أول أشهر حكمه، حتى قبل أن ينتهي من إعادة طلاء وتأثيث المكتب البيضاوي للرئيس الجديد. هو إذن وإدارته بدأت عبثية وهي تدافع عن «تدخل محدود، لا اشتباك كامل، ولا جنود على الأرض، ولا تغيير النظام» إذن لماذا كل هذه الضجة؟ بقي أن يرسل البيت الأبيض برقية اعتذار للنظام السوري!! إن الصورة الكاملة تنبئ بعجز فاضح في قدرة المؤسسات المنتخبة على التصدي لما يوجب التصدي له، حتى المحاججة التي استخدمت ركزت على «استخدام السلاح الكيماوي» وهو خطير، ولكن الأخطر القتلى الذين تجاوز عددهم أكثر من مائة ألف، والمشردون بالملايين، والمعتقلون بعشرات الآلاف، عدا الهدم الكامل للمدن والقرى السورية، والحط من الحياة البشرية.
على صعيد المؤسسات الإقليمية نجد أيضا الجامعة العربية التي مع الأسف كلما تمخضت «ولدت فأرا»، فقد كان الاجتماع في القاهرة شكليا، كان أكثر الجهد المبذول في صياغة قرار الجامعة أن يبدو وكأنه غير مترابط ولا يعني إلا كلمات دون معنى. عجز الجامعة العربية أمام كثير من التحديات هو عجز كلي، أفضل طريقة للتخلص من «الحرج» هو قذف المشكلة برمتها إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة، التي يعرف من صاغ ذلك البيان أن المؤسستين الدوليتين أعجز من «أم ماطل»! لقد صدئت الجامعة العربية إلى حد أن تروسها لم تعد تعمل باتجاه واحد، ولعل الإخوة هناك ومن يهمهم أمرها الاعتراف بذلك العجز، وما الفشل في محاولة إنعاش الجامعة الذي قيل لنا في أكثر من منعطف إنه قادم، إلا تعبير عن فشل العمل العربي، فقد ركبت لزمان غير هذا الزمان.
أما ثالث المؤسسات فهو مجلس الأمن، الذي يصر البعض على اللجوء إليه طلبا للغطاء السياسي، وقد ركب هو أيضا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وتجاوزت الأحداث آلياته في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، هذه الشيخوخة العالمية التي دأبت على التسويف والمماطلة تنفيذا لمصالح دولة هنا أو هناك، في الوقت الذي تعاني فيه الشعوب من الذبح، لم يعد مسوغا لها أن تكون الملجأ.
ثلاث دوائر مؤسسية أصابها العجز.. مؤسسات ربما كانت صالحة للقرن العشرين، ولكن الزمن وما صحبه من تغيرات هائلة في الكثير من الوسائل، يجبر الجميع على إعادة النظر وأعمال الابتكار، وليس جديدا المعروض للمناقشة اليوم في بعض دوائر الفكر الدولي أن المؤسسات الديمقراطية، كما ركبت في العقود الماضية، لم تعد تفي بمواجهة التحديات المحلية والعالمية الجديدة. لقد بدأ مسلسل الفشل الدولي والإقليمي ليس فقط في الدائرة السورية التي نتحدث عنها كونها الأكثر سخونة اليوم، هو فشل في عدم كبح شهية الجماعات خارج الدولة، كالجماعات المسلحة التي تستفرد بمجتمعاتها من لبنان إلى الصومال إلى سيناء، كما ظهر الفشل في التقاعس عن إعانة المجتمع المدني الإيراني بعيد انتخابات عام 2009 مرورا بما يحدث في أفريقيا جنوب الصحراء من تفشي جماعات تقمع مجتمعها وتحكمه بقوة النار والحديد والأفكار الجامدة!
انتظار شيء يحدث لوقف نهر الدم في سوريا هو كانتظار العنقاء، فيه من الوهم أكثر مما فيه من الحقيقة.
آخر الكلام:
بعد تسريب الأميركي إدوارد سنودن معلومات سرية عن أجهزة الاستماع والمراقبة، زاد الإقبال على رائعة جورج أورويل (1984) التي تحدث فيها عن «الأخ الأكبر» المراقب الدائم، وتبين الآن أن الأخ الأكبر يعرف أكثر بكثير جدا مما توقع الجميع. إنه هناك يسترق السمع في جيبك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق