بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

محنة الاعلام العربي محمد كريشان



‘ثق بي فأنا صحافي’… هكذا يكتب على بعض الهدايا الصغيرة التي تباع عادة في النقابات الصحافية الغربية والاندية الاعلامية وبعض المتاحف الخاصة بتاريخ الصحافة. جملة قصيرة تختزل ما استقرت عليه إجمالا العلاقة بين الرأي العام في معظم الدول الغربية ووسائل إعلامه رغم بعض الهزات العابرة.
‘لا تثق بي فأنا صحافي’… هي للاسف ما تبدو عليه الاحوال عندنا في البلاد العربية في خضم حالة الاستقطاب الحادة التي باتت تطبع حياتنا السياسية في الثلاث سنوات الماضية على الاقل. لم تعد هناك مساحة للعاملين في قطاع الاعلام يكونون فيها ناقلين للخبر، مهما كان، ومتيحين لمختلف الاراء المتعلقة به أن تعرض وتتفاعل، بنعومة أو حدة، بلا أبوة أو وصاية. بات على هؤلاء، سواء أرادوا ذلك أو أرغموا عليه، أن يكونوا مع هذا المعسكر أو ذاك بغثه وسمينه. أصبح الاعلام العربي طرفا في معادلة الصراع السياسي القائمة حاليا في أكثر من دولة عربية ولا سيما تلك التي سميت بدول الربيع العربي.
أكثر من ذلك، لم يعد مسموحا لهذا الاعلام ألا يكون مع زيد أو عمرو. بات مجبرا أن يصطف مع هذا أو ذاك، إما لانه اختار ذلك فعلا أو لانه دفع إليه، كما أن القارئ أو المشاهد العربي لم يعد يختار وسيلة إعلامه المفضلة بناء على ما تنقله إليه من وقائع ولكن بناء على مدى انسجام ما تعرضه هذه الوسيلة مع هواه السياسي ليس إلا.
بين المهنية والهوى السياسي ضاعت أمور كثيرة. دفع الصحافيون العرب جراء ذلك من رصيدهم الكثير وسيدفعون أكثر من رصيد مصداقية لم تكن بالاصل في أفضل مستوياتها لسنوات طويلة. نفس المشاهد للقنوات التلفزيونية الذي أعجب لسنوات بانحيازها في قضايا عديدة ذات صلة بتغطية الحرب في أفغانستان أو الغزو الامريكي للعراق أو العدوانين الاسرائيليين على لبنانوغزة بل حتى بانحيازها في ملفات لبنانية وفلسطينية داخلية هو نفس المشاهد الذي بات يلوم نفس وسائل الاعلام على انحيازاتها الحالية بل ويعيرها بغياب المهنية والتوازن في عملها. الانحياز، في عرف هؤلاء، ليس مذموما في حد ذاته طالما هو متطابق مع هواهم السياسي الذي يريدون من وسيلة الاعلام هذه أو تلك أن تريحهم نفسيا أكثر في التمسك به .
أحد النقاد العرب كتب قبل سنوات قليلة ما بات اليوم أكثر جلاء. قال إن التلفزيونات العربية صارت تتعامل مع جمهورها بلغة ‘وبشر المؤمنين’، بمعنى أن كل واحدة منها تعطي لجمهورها، الذي قرر أصلا أن يكون جمهورها منذ البداية لقناعات سياسية مسبقة، الوجبة المتناغمة مع قناعاته. هذا أدى في النهاية إلى أن وسائل الاعلام، كما الجمهور، انقسمت بدورها إلى فسطاطين أو إلى ما يشبه ‘ألتراس′ فريقي كرة القدم في معالجة كثير من الملفات أبرزها حاليا الملفان السوري منذ عامين ونصف والمصري منذ الاطاحة بالرئيس محمد مرسي. وفي النهاية صار انحياز كل من الجمهور ووسيلة إعلامه يغذي أحدهما الاخر وينعشه.
أدى هذا بدوره إلى أن الكثير من الصحافيين والمذيعين لم يعد يرى نفسه، أو ينظر إليه على أي حال، على أنه يعمل في مهنة يفترض أن تحافظ على مقاربتها النقدية النبيهة لكل شيء، فكان أن تحول إلى ما يشبه المناضل السياسي الحاشد للجماهير المؤيدة له في هذا المعسكر أو ذاك، بل إن البعض في وسائل الاعلام المصرية تحديدا أعجبته فكرة أنه تحول إلى نجم سياسي محرض وليس بحال من الاحوال صحافيا أو مذيعا. صار الحريص على استمرار دوره كصحافي مهني، وفق الاصول والمعايير المتعارف عليها لهذه المهنة، أشبه بالدرويش في هذه الموالد المقامة هنا وهناك. لا أحد يقبل به دون أن يسعى جاهدا لحشره بسرعة في هذه الخانة أو تلك حتى يركن كل واحد منفرج الاسارير للتصنيف الذي استقر عليه: هذا الصحافي معنا أم ضدنا؟!! . 
قد يجادل البعض ويقول ليس عيبا أن ينحاز الاعلام إلى هذا الموقف أو ذاك طالما كان عادلا وأن الوقوف على مسافة واحدة من كل شيء رياضة مستحيلة. فليكن، شرط ألا يكون ذلك بطمس الحقائق التي لا تعجبنا أو الاصطفاف الآلي، والغبي أحيانا، وراء مواقف وقناعات سياسية لا تتزحزح ولا مجال للاقتراب منها بما يشبه القداسة لاعتبارات مختلفة أبرزها الان هذه الوطنية الجارفة المنفلتة أحيانا من كل عقل أو منطق أو القومية العربية المراهقة والسطحية. ما ينطبق على وسائل الاعلام العربية الكبرى ينطبق كذلك على وسائل الاعلام داخل البلد الواحد خاصة تلك التي تعرف مخاضات سياسية عسيرة في تونس وليبيا واليمن وغيرها.
بعد أن يهدأ غبار المعارك العربية الطاحنة حاليا ونشرع في حصر الخسائر سنكتشف أن من أبرز الضحايا مهنة إسمها الصحافة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق