بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

◘ ما أُحبّ في السياب -عبده وازن



لو أمهل القدر الشاعر بدر شاكر السياب بضع سنوات مثلما امهل رفاقه العراقيين في ثورة قصيدة التفعيلة، لكان كتب قصائد تواكب الحركة الشعرية الحديثة عن كثب وتمعن في بلورة ما يسمى «الشعر الحر». كان السياب مهيّأ كي يوغل في تجربته الفريدة ويمعن في تطويرها إيقاعياً وشكلياً، فهو، علاوة على ملكته الشعرية العظيمة ومراسه
الصعب، كان يملك ثقافة تضرب في أديم الشعر العربي القديم والنهضوي وفي ارض الشعر العالمي، لا سيما الانغلوساكسوني. لكنّ اعوامه الاخيرة التي كان مفترضاً بها ان تكون اعوام نضج وانبثاق، غدت أشد حقبات عمره إيلاماً وإغراقاً في الرثاء التراجيدي الذي يشبه رثاء ايوب المعذب. فالمرض الذي أقضّ حياته، جعل هذه الحياة رميماً ودفع الشاعر الى مقاومة الموت وجوّه القاتم بما أوتي من قدرات شعرية. راح يكتب كما لم يكتب يوماً بحماسة وغزارة وفي حسبانه ان لا بد من استباق لحظة الاحتضار شعرياً بعدما احسها وشيكة. واظب على الكتابة وهو على فراش المرض متكئاً على سليقته التي فتّح الألم منابتها وتمنى لو ان القلم يظل بين يديه حينما يغمض عينيه الى الابد. وفي هذه اللحظات الكئيبة استعاد الشاعر جيكور مدينته التي سيعود اليها محمولاً على نعش تحت مطر غزير، ونهر بويب وصورة غيلان ابنه وحبه الذي لم يعرف الاستكانة، وأحلامه التي تحطمت وخيباته... وكانت أنفاسه الشعرية تشبه حشرجات الاحتضار على رغم غنائيتها العالية التي لم تفارق شعره يوماً، حتى في مرحلة الالتزام والواقعية.
ما كان أمض اعوام السياب الاخيرة. بدءاً من العام 1961، وكان في الخامسة والثلاثين، راحت تغزو جسده الرقيق آلام ما لبثت ان تفاقمت حتى اقعدته الفراش. تمثّل نفسه ايوب العصر، السندباد الهائم في البحار، وعوليس الذي لن يصل الى ايثاكا الا ميتاً. تمثل نفسه «الغريب» حيثما حل، وسط الحزب، في الوطن ام منفياً ام مريضاً في بيروت ولندن والكويت. تمثل نفسه المسيح متألماً حتى بعدما أُنزل عن الصليب... قلة هم الشعراء الذين تألموا مثلما تألم السياب. تألم حتى انه لم يتورع عن «العواء» كما يقول علانية في احدى قصائده «أعوي، أصيح...». بل هو رفع صوته الخفيض مخاطباً بارئه: «رصاصة الرحمة يا الهي».
أُحب سيرة السياب مثلما أُحب شعره. أُحب شخصه كما اتخيله، احب طيفه الذي يهب من قصائده كلما قرأتها وعاودت قراءتها. كم كنت اتمنى لو ان عمره طال مثلما طال عمر نازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وسواهما من رفاقه. كنت على قناعة بأن السياب لو تأخر به العمر لكان سبق الجميع الى معترك الحداثة الثانية وإن ظل متمسكاً بقصيدة التفعيلة، هو الذي كان خير وارث للتراث الشعري القديم والنهضوي. كان على أهبة كي يواصل ثورته من قلب هذه القصيدة، هو المثقف الملمّ بالشعر العالمي، قارئ شكسبير وإليوت وجون كيتس ولويس ماكنيس وأديت ستويل وستيفن سبندر الذي تأثر بنظريته حول «الواقعية الجديدة»، وقارئ بودلير الذي حاكى لديه صورة «الشاعر الرجيم»، وهذا عنوان قصيدة كتبها السياب وأهداها الى شاعر «أزهار الشر». ولن ننسى السياب المترجم الذي عرّب شعراء الحداثة في العالم ومنهم لوركا ورامبو وجاك بريفير وريلكه، وعرّب ايضاً ديوان الشاعر الفرنسي الكبير لويس اراغون «عينا إلسا».
في الذكرى الخمسين لرحيله، لا يحتاج السياب الى مديح وإطراء بعدما كُتبت فيه آلاف الصفحات. ما احوجنا اليوم الى قراءة جديدة لصاحب «منزل الاقنان» تفصل بين مراحله التي تبدو على اختلاف بيّن، وتلقي ضوءاً نقدياً على خصائص كل مرحلة وتكشف التفاوت الشعري الذي شهدته. كتب السياب كثيراً، ربما أكثر مما كان يتوقع. كان يشعر انه مسبوق، الحياة سبقته والزمن. لعل حدسه اسرّ له انه سيغادر العالم باكراً، في الثامنة والثلاثين من عمره، فراح يكتب كمن اصابته الحمى. وكتب السياب الكثير وكان يشعر انه بحاجة الى ان يكتب من غير توقف.
لا اقلل البتة من عظمة السياب إن قلت إنني لا احب كل شعره، لا سيما قصائده الطويلة وذات المنحى الموضوعي والملتزم، وقصائده التي يجرفها الانثيال او «السيل» كما يقول انسي الحاج «سيل الشعر حتى الموت». كان شعر السياب يطوف حتى ليغرقه هو نفسه وليس قصائده فقط. لا احب أيضاً القصيدة التي يفلت فيها الزمام لديه فلا يضبطها ضابط ولا تنتهي حين يجب ان تنتهي. لكنني احب تجربة السياب، احب صورة الشاعر التي جسدها، الشاعر الحالم الذي سعى الى تغيير الحياة والتزام آلام البشر والى بناء عالم جديد يجدر العيش فيه، الشاعر الذي انطوى على ذاته ما إن ادركته الخيبة وراح يغني جراح الكائن والروح. احب قصائده اللامعة كالسنابل الذهبية والمتوهجة بغنائها العالي والمتدفقة كنهر، بإيقاعاتها وصورها وكثافاتها الروحية وأسرارها الداخلية.
أُحب السياب وأشتاق دوماً الى شعره وأحنّ للعودة اليه، حيناً تلو حين، وكلما عدت اكتشفت كم أنه عظيم وكم انه دوماً في الأمام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق