بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 مارس 2017

والذِكريات صدى السنين الحاكي

في هذا الزمن العربي «اللايوصف» ما الذي يستطيعه المغترب عن وطنه، طوعاً أو كرهاً، أكثر مما تستطيعه عجوز في تذكر أيام شبابها وعرسها، وأعراس آخرين أحبّتهم، وما تزال، ولو على بُعد الزمان والمكان؟ تشاؤم؟ الكلمة تقصّر في وصف حالة العربي «اللامنتمي» إلى أحد هذه الأنصاب والأزلام المتناحرة، ولا أحد منهم يدري لماذا، ولا على ماذا. متفائل؟ قطعاً: لا، ودَعكَ عن الحديث عن الضوء في آخر النفق. لكن الإستدارة إلى الوراء قد تعطي إيحاءً بضوء كان يوماً في أول النفق. ولكنه: كان يوماً، ولا يبدو أنه سيعود. متشائل؟ حتى ولا هذه الصفة الهجين: كيف تركّب المتفائل على المتشائم، وكيف يجتمع الضدان؟ قالها يوماً شاعر مغدور لا يُعرف عنه سوى قصيدة واحدة، قتلوه غدراً بسببها، كما تروي أخبار العشاق. قال يصف حسناء نجدية أعلنت عن استعدادها لتتزوج بمن يصف مفاتنها دون أن يراها. قال: فالوجه مثل الصبح مُبيَضُّ/والشَعرُ مثل الليل مُسوَدُّ/ضدّان لما استُجمعا حَسنا/ والضد يُظهر حُسنه الضدُ. لكن شاعراً آخر كان ما يزال محتفظاً بعقل غير العشاق، قال يسخر من «سُهيل» اليماني قليل الحظ في الوسامة، تقدم لخطبة «ثُريا» الشامية الحسناء، فرأى خلافاً للشاعر المغدور: أيها المُنكحُ الثريا سهيلاً/عمركَ الله كيف يلتقيانِ؟/هي شامية إذا ما تبدَّت/ وسهيلٌ إذا أطلَّ يماني. والإشارة إلى طلوع الثريا من الشمال، وإطلالة سهيل من الجنوب نسبه إلى الشام، الشمال، واضحة. كيف يلتقيان؟ كيف للمتفائل والمتشائم أن يجتمعا في نفس واحدة؟ كيف «يلتقيان»؟
وماذا تفعل/ يفعل «العجوز»، فالصفة للمذكر والمؤنث؟ اذا لم يمكن أن يجتمع الضدان في نفق أوله ضوء وآخره لا ضوء؟ كيف يجتمع المبتدأ والمنتهى؟ الانكفاء على الذات، واستعادة الماضي وذكرياته: صدى السنين الحاكي! والاغتراب لعنة الزمان الحديث. الاغتراب طوعاً أقل لعنةً من الاغتراب كُرهاً. هل كان جرير هو القائل لزوجته: سأمتاح البحور فجنِّبيني/أداة اللوم وانتظري امتياحي؟ لكن ما الذي يدفع إنسان هذا الزمن، وأغلب أناسه عرب، إلى امتياح البحور، سوى تخيُّل بصيص ضوء في آخر النفق؟ لكن الحنين إلى الماضي الأقل سوءاً من الحاضر لا يكلِّف سوى اغفاءة لساعة أو بعض ساعة، تستمع فيها إلى صدى السنين: يحكي، ويحكي ماذا؟ أول إغفاءة تصدمك بنصف بيت من شعر لا تذكر بقيته: تغيّرت البلاد ومن عليها… كيف تغيَّرت؟ هات مثالاً من صدى تلك السنين. في شبابك، كنت تزور أصحابك في بيوتهم، دون انذار ولا مواعيد مسبقة، وتعرف أنهم سيرحبون بزيارتك. وهم يزورونك في دارك بالطريقة نفسها. تلفونات؟ موبايلات؟ أعوذ بالله! كم داراً تعرف كان فيها تلفون؟ في الدوائر الحكومية يوجد تلفون واحد في غرفة المدير. قل لي كم تلفون في داركم الآن؟ هل أسأل كم موبايل عند أفراد الأسرة؟ هل هذا تقدم. تلاحظ أطفال المدارس يمرّون أمام نوافذ دارك، وهم عائدون من المدرسة. كم واحداً منهم ينظر أمامه أثناء تفحُّصه الموبايل بيده؟ لو سألت أحدهم في لحظة «لا موبايل» عن حاصل ضرب 7 5x لأخرج الحاسبة من حقيبته المدرسية ليقوم بعملية ضرب 7×5 . نشرت إحدى المجلات الأمريكية قبل مدة استبياناً طريفاً عن مدى معرفة طلاب المدارس الثانوية الأمريكية بخريطة بلادهم. خريطة بحدود الولايات بالخطوط دون أسماء، والسؤال: اين تقع ولاية نيويورك في الخريطة؟ كانت نسبة عالية مخيفة تؤشر إلى كاليفورنيا. بعد هذا هل تصدق ما رأيناه جميعا على التلفزيون من زيارة جورج بوش الابن لاسبانيا، في ظهور مشترك مع ساباتيرو رئيس الوزراء وكان بوش يخاطبه «يور ماجستي» يا صاحب الجلالة، حاسباً إنه الملك خوان كارلوس. ثم ذهب بزيارة البابا، فصار يخاطبه كأنه «الدالاي لاما» وهذه ليست نكتة خبيثة.
عندنا: كيف تغيَّرت البلاد ومن عليها؟ التربية! التربية المفقودة. أبسط مظاهر السلوك ينطوي على مضامين ساءت سوءاً في هذه الأيام اللاحقة. كان في مدرستنا الثانوية ثلاثة أو أربعة طلاب من «قليلي الأدب» لأنهم «يشربون سجائر». ولكن إذا كان أحدهم، بعد المدرسة، يسير على الرصيف وبيده سيجارة، ويصادف مرور أحد المدرسين على الرصيف المقابل، يسارع هذا المدخن قليل الأدب إلى رمي السيجارة على الأرض والدعس عليها، قبل أن يراه المدرس. فهو طالب ليس قليل الادب تماماً. ترى كيف يتصرف شباب اليوم أمام مدرسيهم أو من هم في عمر آبائهم بل أجدادهم؟
كانت المماحكات والتنابز بالألقاب غير غائبة في تصرف الناس. فهؤلاء بشر مثل غيرهم ولن يدعي أحد من العقلاء أن البشر في أيام قبل بداية النفق كانوا ملائكة، متعلمين، مؤدبين في سلوكهم. خذ مثلاً النكات والتعليقات عن «المصالوة» أهالي الموصل، التي يطلقها أهل بقية أنحاء العراق بشكل عجيب عن «بخل» أهل الموصل، وأحسب مبعث ذلك كله نوع من الغيرة والحسد. لكن بعض «المنصفين» يفنِّد تهمة البخل عن أهل الموصل، كما لا يخلو الأمر ممن يفنّد تهمة البخل عن الاسكتلنديين ممن يعرفونهم جيداً. مرة كنتُ بين جماعة من العراقيين، رجالاً ونساء من شتى «الألوية» العراقية. وتعرّض الحديث عن بخل «المصالوة» فانبرت سيدة من أسرة بغدادية مشهورة، تفنّد الادعاء بقولها إنها زارت عدداً من البيوت الموصلية فوجدت حتى بيوت متوسطي الحال يحتفظ بفراش محجوز للضيف المفاجئ، لا يستعمله إلا الضيف عند قدومه. قد تكون هذه ملاحظة بسيطة، لكن الإشاعة قد تكون أكثر جاذبية في الأحاديث العابرة.
وهذه الظاهرة لا تقتصر على العامة من محدودي الحظ في المجاملة. فهي في الغالب من قبيل التظرُّف. أذكر يوم كنتُ أستاذاً في جامعة الإمارات أن أقبلَ الجواهري لحضور احتفال لتكريمه بجائزة الشعر من مؤسسة العويس. كان يجلس إلى جانبي أنا و«نصفي الأحسن» نتحدث عن الشعر والشعراء، وهو يطرب لمن يكثر من الحديث عن شعره. فمال قليلاً وهمس: «ديري بالِك على الدكتور، ترى هو خوش وَلَد ولو مصلاوي» فضحكنا طويلاً. وكانت مداعبة جميلة من شيخ شعراء الجيل. وثمة اتهام سمج لا يقوم حتى على ساق خشبية «تفوَّه» به أحدهم، قائلاً ان سبب كثرة البعثات العلمية من طلبة الموصل أن هناك من «يسرّب» لهم أسئلة «الوزاري» أي امتحان آخر السنة المدرسية! هذا يذكّرني بآخر شهر من السنة المدرسية التي كنا نستعد فيها «للوزاري» فنخرج إلى السهول المحاذية لأطلال نينوى، حيث الهدوء العجيب في أواخر الربيع، والزهور البرية تملأ الرحب في «أم الربيعين» الموصل (أيام قبل داعش). هناك كنا «نراجع» وبأيدينا الكتب. مرة كان يسير قريباً مني طالبان من القسم العلمي، لا يحملان كتباً، بل «يحلاّن» مسائل في الفيزياء شفوياً بأرقام رياضية معقدة، لا أفقه منها شيئاً، أنا الحامل بيدي كتاب «المعلّقات» أحاول حفظ عشرة أبيات من كل معلّقة، تحسُّباً لسؤال عن امرئ القيس أو زهير ابن أبي سُلمى. أرسل هذان الطالبان إلى أمريكا لدراسة هندسة النفط، والثاني لدراسة هندسة الغاز. ولما عادا متفوّقين في تخصصهما، عُيّنا في مراكز رئيسة في الدولة. بعد ذلك ببعض السنين المنتجة، عيّن أحدهما وزيراً للنفط، والآخر مديراً عاما لإنتاج الغاز. وبعد هجوم «مُتحضِّري» العسكر الحزبي، نزح الإثنان إلى بلاد تحترم العِلم ولا تحترم السياسات الحزبية. وكانت خسارة العراق مكسباً للدول «الشقيقة»!
وكثرة ذِكر «الجسور» في أخبار هذه الأيام يثير ذكريات كابوسية عن جسر الموصل، الذي صار يدعى مؤخراً «الجسر العتيق» بعد إقامة جسور أربعة جديدة عبر نهر دجلة. كنا أيام الشباب نعبر الجسر إلى «هذاك الجينب» حيث الحديقة العامة الشاسعة، وبعدها الملعب البلدي و«ساحة الكشافة». في أوائل الأربعينات، والعراق تحت الاحتلال البريطاني غير المعلن، كنا نشاهد جنوداً أشداء من الهنود يحفرون في إساطين الجسر الكونكريتية الضخمة، بحفارات كهربائية صخابة، ليملأها الإنكليز بالمتفجرات تحسباً لوصول الالمان من الشمال لقطع اتصالهم بالمدينة والتقدم إلى بقية أنحاء العراق ومحاربة الإنكليز. هكذا قيل لنا يومها، مما زاد حنقنا على المستعمر الإنكليزي الذي لم يكتفِ بتدنيس مدينتنا بالشقراوات البولنديات للقيام بأنشطة «الترفيه» عن الجنود الإنكليز، فصِرن ينافسننا على هدوء الطبيعة في «تل قاينجو» مع اصحابهن من جنود الإنكليز.
وذات يوم صيفي، كنا جماعة من رفقة المدرسة نعبر الجسر على عادتنا، ولاحظنا غياب أصوات الحفارات ووجوه جنود الإنكليز الهنود. وفجأة سمعنا أصوات إطلاقات مدفعية، فركضنا إلى آخر الجسر وسألنا شرطي المرور الذي يحرس مدخل الجسر: هل وصل الألمان؟ أجاب «النوبجي» بابتسامة عريضة: لا تخافوا، هذه ليست مدافع رمضان، بل احتفالاً بانتهاء الحرب العالمية. ففرحنا كثيراً، لا لانتهاء الحرب التي ما كنا نعرف عنها الكثير سوى لمّا نسمع يونس بحري يذيع: هنا برلين، واليكم نشرة الأخبار.
ما كان يهمّنا أن «تلغيم الجسر» قد انتهى. ففرحنا بسلامة الجسر.
* عبدالواحد  لؤلؤة

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. لاتصال للحصول على قرض سريع وسريع.

    أقدم قرض آمن وغير مضمون بنسبة 3٪.

    استعارة مبلغ القرض من 2000 إلى 5000،000jd.

    اختيار مدة القرض من سنة واحدة إلى عشر سنوات.
    saheedmohammed17@gmail.com

    ردحذف