بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 8 فبراير 2016

تونس: كاريكاتور السياسة والرواية

تبدو الأعوام الخمسة الأخيرة أطول بكثير من أي فترة أخرى في تاريخ دولة الاستقلال في تونس. أطول من السنوات الثلاث والعشرين السابقة، بل وأطول من السنوات الثلاثين الأسبق! فقد حدث الكثير وتراكمت طبقات من الوقائع والفواجع، بحيث أصبحت الأسابيع الأولى من عام 2011، وما اكتنفها من استبشار وابتهاج، مجرد ماض بعيد أو تاريخ غابر لم يعد في متناول الذاكرة. 
إلا أن رواية «ليلة الإفك»، التي صدت أخيرا للشاعر والناقد والأكاديمي منصف الوهايبي، تمكّن القارىء من استعادة بعض من وهج تلك اللحظات وطزاجة هاتيك السنوات. ولكنها استعادة عارضة غير مقصودة لذاتها، لأن ما أنجزه الوهايبي في هذا العمل ذي النزعة التجريبية المشوّقة هو بمثابة «تعليق روائي»، إن جاز التعبير، على تجربة الانتقال الديمقراطي بعجائبها التي لا تنتهي وبساستها المتقلبين المتذبذبين «الذين يتجمعون في أحزاب هي أشبه بملل ونحل». ورغم أن الرواية تسمي هؤلاء الساسة بالاسم، فإن ثبوت الهوية لا يمنع من تحولهم إلى شخصيات كاريكاتورية، وليس أقلهم ذلك الرئيس العابر في سكوت عابر، والذي «لا بد أن أمه أنجبته ليلة القدر.. فهو محظوظ في العهود كلها».
أما أبرز مظهر من مظاهر الكاريكاتورية السياسية الفعلية (غير الروائية)الذي لم يعد يخفى على المواطنين، فهو كثرة التمسح بذكرى الزعيم بورقيبة. فقد صار التزلف للرمز التاريخي والتعمد بالاسم الأبوي من أسخف التمارين الدعائية التي يمارسها معظم الساسة في تونس. كل (باستثناء ساسة حزب النهضة) يدّعي وصلا ببورقيبة، والتاريخ لا يقرّ له بذاك! إلا أن هذه الكاريكاتورية السياسية ليست وقفا على تونس، فقد شهدنا مثيلا لها في فرنسا بمناسبة إحياء مائوية اغتيال الزعيم اليساري جان جوريس. إذ كان من أطرف مفارقات هذه المائوية، عام 2014، أن الاحتفاء بها لم يقتصر على الوريث الشرعي، أي اليسار. بل إن مختلف الأطراف السياسية، بما فيها اليمين (!)، قد تسابقت في محاولة ادعاء استلهام قيم العدالة الاجتماعية التي كان يدافع عنها جان جوريس. ذلك أنه لا تضاهي مكانة جوريس في المخيال الشعبي الفرنسي أي شخصية سياسية حديثة أخرى (ربما باستثناء ديغول). 
ويكفي لأي أجنبي أن يكون عنده بعض اطلاع على الثقافة الشعبية في فرنسا المعاصرة حتى يكون عارفا بالتأكيد بأغنية «لماذا قتلوا جوريس؟» الشهيرة التي يسترجع فيها الفنان الخالد جاك بريل مشاهد بؤس الطبقة الكادحة في أوروبا الرأسمالية قبل انبلاج فجر الحقوق النقابية ثم ما أعقبها من تشريعات الرعاية الاجتماعية التي بلغت تمام تعبيرها في أنظمة الديمقراطية الاشتراكية.
هذا رغم أنه قد كان بين مجايلي جوريس ومنافسيه عمالقة مثل جورج كليمنصو الذي حكم فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى (والذي تفاهم بعد نهاية الحرب مع نظيره البريطاني لويد جورج على تقاسم المشرق العربي)، ومثل جول فري الذي أرسى نظام التعليم الإلزامي المجاني، الذي يعرف باسم «المدرسة الجمهورية»، والذي كان فخر فرنسا بحق لأنه كان يمنح أبناء الشعب نوعية التعليم التنويري الممتاز الذي كان حكرا على النخب وعلى الشرائح الموسرة في بلدان أوروبية أخرى (مثل بريطانيا). وقد استفادت من ديمقراطية هذه المدرسة المفتوحة على أرستقراطية الفكر الإنساني أجيال متعاقبة من أبناء المستعمرات تمكنت بفضل هذا التعليم من التسلح بقيم أوروبا في كفاحها ضد مظالم أوروبا. كما استفادت من الحفاظ على قيم «المدرسة الجمهورية» النبيلة، بعد ذلك، الأجيال الأولى في عمر دولة الاستقلال، خاصة في بلدان المغرب العربي وإفريقيا الغربية.
يصدّر الوهايبي روايته بـ»تخربيشة» نشرها في جريدة «الطريق الجديد» يوم 11 حزيران/يونيو 2010، قبل فرار بن علي بسبعة أشهر: «عام 1935 كتب شاعر البرتغال الشهير فرناندو باسّوا، معرّضا بسلازار الذي أرسى في البرتغال دكتاتورية امتدت من 1934 إلى 1974: ‘هو لا يشرب الخمر ولا يشرب القهوة، ولكنه يشرب الحقيقة والحرية بنهم عرّضهما للنفاد في السوق». قد لا يكون ثمة أبلغ من هذه الصورة في وصف حال العالم العربي الذي آن لـ»أساطيل الحرية» أن تفك الحصار الذي تضربه الأنظمة على شعوبه، عسى أن تعجّل بثورة «ياسمينية» إن لم تكن قرنفلية…». لم يكن الوهايبي يتوقع أن تسمى الثورة التونسية ثورة الياسمين. «لعله الحدس».

٭ كاتب تونسي
مالك التريكي - القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق