بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

الوجه الآخر لـ«الاتفاقات الرديئة»

يزور الرئيس دونالد ترمب آسيا، هذا الأسبوع، وأنظاره متركزة على ما يفترض أنه «اتفاقات رديئة» أبرمها أسلافه مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة ـ سواء كانت اتفاقات تجارية تقتل فرص العمل أو تعهدات دفاعية باهظة الكلفة. في طوكيو، أثار ترمب مسألة الميزات التجارية «غير العادلة» التي يتمتع بها البلد المضيف. وفي كوريا الجنوبية، التي وصل إليها الثلاثاء، من المقرر أن يزور واحدة من القواعد العسكرية الأميركية «مرتفعة التكلفة» هناك، والاحتمال الأكبر أنه سينتقد اتفاق التجارة الحرة «المروع» القائم بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، الذي سبق وأن تحدث عن رغبته في الانسحاب منه.
بيد أنه على النقيض من الخطاب الذي يروج له ترمب، فإن الرؤساء الأميركيين السابقين لم يقروا هذه الاتفاقات، وهم جاهلون بفحواها. في الواقع، لقد جرى تصميم العلاقات الأميركية بدول آسيا عمداً بحيث تبدو «رديئة» ـ بمعنى التضحية ببعض المصالح الأميركية مقابل خدمة أهداف أخرى أهم وأسمى. وحال إلغاء ترمب لمثل هذه الترتيبات، فإنه سيجعل من الولايات المتحدة بذلك بلداً يمكن للمنطقة الاستغناء عنه، بعد أن ظلت طيلة عقود عنصراً فاعلاً لا يمكن الاستغناء عن دوره في ضمان استقرار وأمن آسيا.
ودعونا نتذكر الصورة التي بدت عليها دول شرق آسيا خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، فقد هيمن الفقر المدقع على مساحات واسعة منها، وكانت بحاجة ماسة لجهود إعادة الإعمار. وبدت الشيوعية، التي كانت قد حققت بالفعل انتصارات في الصين وكوريا الشمالية، على وشك ضم مزيد من الدول تحت مظلتها. في ذلك الوقت، بدا الرد باستخدام القوة العسكرية خياراً قائماً، وسبق له النجاح في كوريا مطلع خمسينات القرن الماضي عندما صدّ غزواً كورياً شمالياً. ومع ذلك، بدا من الواضح أن ثمة حاجة لاستراتيجية أقل دموية وأكثر استدامة لوقف المد الشيوعي وحماية حلفاء واشنطن وقيمها ومصالحها داخل المنطقة.
وبالفعل، جرت صياغة منظومة من العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية التي نجحت في بناء نظام مستقر في شرق آسيا، وعززت مكانة الولايات المتحدة باعتبارها القوة الأولى في المنطقة. ونجحت المعاهدات العسكرية التي أقرت مع حلفاء، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وجرى تدعيمها ببناء سلسلة من القواعد العسكرية، في الحفاظ على السلام. اقتصادياً، فتحت واشنطن أسواقها أمام الصادرات القادمة من آسيا، التي أصبحت محركاً رئيسياً في التنمية السريعة بالمنطقة.
حتى الصين الشيوعية جرى جذبها نهاية الأمر إلى داخل النظام الأميركي، فقد نظر الزعيم الصيني البارز دينغ شياو بينغ إلى التعاون مع الولايات المتحدة باعتباره عنصراً محورياً بالنسبة لنمو اقتصاد بلاده، ما دفعه لاتخاذ مجموعة إجراءات للتقارب إلى الولايات المتحدة مطلع عام 1979 في الوقت الذي أطلق برنامجه الإصلاحي. وقد دفع ذلك الرئيس جيمي كارتر لمنح الصين مكانة «الدولة الأكثر تميزاً»، التي من دونها كان سيصبح في حكم المستحيل تقريباً تنفيذ استراتيجية دينغ الرامية لتحقيق نمو قائم على الصادرات.
وبالفعل، حققت آسيا الثراء، واضطلعت الولايات المتحدة بدور الضامن لهذا النجاح ـ في الواقع كانت أقرب للغراء الذي يضمن تماسك عدد من الحلفاء المتناحرين فيما بينهم. كما اضطلعت الولايات المتحدة عملياً بدور المستهلك الذي يشكل الملاذ الأخير، ذلك أنها كانت تشتري الإنتاج الصناعي الغزير للمنطقة، بدءاً من أجهزة «ووكمان» وصولاً إلى «سامسونغ غالاكسي».
وبطبيعة الحال، فإنه عندما فتحت واشنطن أسواقها أمام الصادرات الآسيوية، أصبح العجز التجاري أمراً لا مناص منه تقريباً. بادئ الأمر، كانت اليابان وكوريا الشمالية، وفي وقت لاحق الصين، على درجة بالغة من الفقر لا تسمح لها بشراء الكثير من الولايات المتحدة في المقابل. كما وجدت الدول الثلاث سبلاً لحماية برامجها الصناعية الوليدة، على نحو غير عادل في الغالب، بينما تسببت تكاليف العمالة الأقل لديها في تحويل الوظائف بعيداً عن الولايات المتحدة باتجاه آسيا.
في معظم الحالات، تسامحت الولايات المتحدة إزاء مثل هذه التكاليف، في الوقت الذي تحملت عبء ضمان حماية حلفائها، وتكبدت المليارات لتشغيل قواعدها العسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية. والسؤال هنا: هل يجعل هذا من الرؤساء من ترومان إلى أوباما حفنة من الحمقى؟ لا، لقد جنت الولايات المتحدة مكاسب هائلة من وراء هذه العلاقات، فقد هزمت الشيوعية، وجرى خلق فرص جديدة لا نهاية لها أمام الشركات الأميركية داخل آسيا، بدءاً من «ستاربكس» وصولاً إلى «آبل» و«بوينغ». كما استفاد المتسوقون الأميركيون من الأسعار الأقل للملابس والأجهزة الإلكترونية والسلع الاستهلاكية الأخرى المصنوعة في آسيا. والأهم من كل ذلك، أن «الاتفاقات الرديئة» التي أبرمتها واشنطن داخل آسيا رسخت مكانة الأخيرة باعتبارها القوة العظمى والأولى في المنطقة.
ربما حان الوقت لتحقيق مزيد من التوازن في العلاقة، خصوصاً أن اليابان وكوريا الجنوبية خرجتا من براثن الفقر، وأصبح باستطاعتهما تحمل المسؤولية عن الدفاع عن أراضيهما (وإن كانتا تسهمان بالفعل بدرجة كبيرة في تكاليف القواعد العسكرية الأميركية على أراضيهما). ولا تزال الصين واليابان وكوريا الجنوبية تحقق فوائض تجارية أمام الولايات المتحدة، وبمقدور كل منهم إنجاز المزيد لفتح أسواقهم أمام الشركات الأميركية، خصوصاً الصين.
بيد أن ذلك لا يتطلب سوى مجرد تعديلات بسيطة للنظام الحالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، الأمر الذي يمكن لترمب وفريق العمل المعاون له التفاوض بشأنه في هدوء دون زعزعة النظام بأكمله. بدلاً عن ذلك، أطلق ترمب تهديدات موجهة للنظام برمته، ومن خلال انسحابه من اتفاقية «الشراكة العابرة للمحيط الهادي»، اتفاق تجارة حرة إقليمي، تخلى عن أداة محورية لتعزيز مكانة واشنطن داخل آسيا. كما أن محاسبة طوكيو وسيول علانية عن تكاليف عسكرية تافهة وزهيدة يثير الشكوك بشأن إمكانية الثقة في واشنطن والاعتماد عليها حال اندلاع مواجهة عسكرية.
بالنسبة للبعض، قد يبدو النظام الذي تقوده الولايات المتحدة من بقايا حقبة «الحرب الباردة»، ولم يعد جديراً بالجهد ولا التكلفة التي يستحوذ عليها. إلا أنه في الواقع ليس بمقدور واشنطن تسوية التهديد النووي الصادر عن كوريا الشمالية، أو العمل كثقل موازن للقوة الصينية الصاعدة سوى من خلال تحالفات وثيقة. ومن دون الالتزام الأميركي الراسخ، فإن شركاء أميركا في المنطقة إما سينجذبون نحو الصين بقوتها المتنامية، أو ببساطة سيشقون طريقاً خاصاً بهم. على سبيل المثال، فإن الدول الـ11 المتبقية داخل اتفاقية «الشراكة العابرة للمحيط الهادي» تتحرك قدماً نحو إقرار الاتفاقية في صورتها النهائية دون مشاركة الولايات المتحدة، ربما هذا الأسبوع.
بوجه عام، من الواضح أن ترمب يرغب في أن تكون الولايات المتحدة قوة عظمى دون أن تتكبد التضحيات التي يتطلبها ذلك ـ أمر محكوم عليه بالفشل، خصوصاً أن الآسيويين يدركون أيضاً ماهية «الاتفاقات الرديئة».
مايكل شومان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق