بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 مارس 2016

المتعلم والمعلم

عاش جورج طرابيشي حياته كلها يتعلم ويعلّم، كان هكذا نموذج المثقف الذي لا يتوقف عن الدرس، المثقف الذي يهاجر من مجال إلى مجال من حقل إلى حقل ومن موضوع إلى موضوع. حتى أننا ونحن نلاحظه لا نعرف أنه اقتصر على جانب أو انحصر في رقعة، ما يفعله طرابيشي هو أنه حين يباشر علماً أو موضوعاً يبدأ من الأول، من البدايات
والمقدمات والجذور، ينقّب ويحفر ويباشر من الأحرف الأولى. ثمة هنا ثقافة لا تكتفي بالعناوين ولا تكتفي بالخطوط العريضة ولا تكتفي بالعام والدارج ولا تبقى عند المصطلح والخلاصات، وإنما تبدأ كل شخصية من حيث انطلقت من مسالكها الأولى وتكوينها المبكر لتتغلغل في دقائقها وثوانيها ومتفرعاتها ومضائقها. هكذا فعل جورج طرابيشي حينما تناول الماركسية، تعلم الماركسية وعلّمها وشملها بالدرس والتنقيب والتحقيق، هكذا فعل عندما عكف على التحليل النفسي الفرويدي، بدا وكأنه يلتهم الفرويدية ويتابعها فصلاً فصلاً وكتاباً كتاباً، هكذا فعل حينما عكف على نقد عابد الجابري، بدا الأثر الجابري تحت عين دقيقة فاحصة تتناوله عبارة عبارة وفقرة فقرة وتعود عند كل عبارة إلى مصادرها ويدقق في هذه المصادر ويدقق في منطلقاتها ويعرضها على ما صدرت عنه ويدقق في حقيقتها، وفي نسبتها، وفي أصولها، وفي مرجعها. هكذا تجري مطاردة حقيقية وتقصٍ فعلي، بل نحن وخاصة في المجلدات الأولى من نقده للجابري، نحن أمام ما يشبه التحقيق البوليسي الذي يقلب العبارة ظهراً لبطن ويبحث في صدقيتها وفي أصولها. هكذا كان يبدو أن الجابري يمد يده إلى مراجع غير موثوقة، ويزعم انه ينقل من مصادر لم يقرأها ويلقي أحكاماً لم يمحصّها وإنما ألقيت ارتجالاً وعلى نحو عشوائي، وبدرجة من الخفة والاستهتار بالقارئ، يكشف عبارة عبارة كيف أن الجابري لم يدرس المصادر وإنما استعار أفكاره من معلقين غير موثوقين لا ينسى ان يسميهم وأن يعود إلى مؤلفاتهم وأن يشير إلى ما فيها من زغل، هكذا نحن أمام تحقيق يكشف الأسرار ويكشف المواربات ويكشف الانتحارات كما يكشف الادّعاءات، يتم ذلك بدرجة من الفضح وبأدلة صادقة وبتحر تفصيلي وبنوع من التدقيق يخرج به طرابيشي من مؤلف إلى مؤلف، ومن دليل إلى دليل، إنه نوع من التقصي والإيغال يكاد يشبه من هذا الجانب ما تحفل به الروايات البوليسية من حبكة وتحرٍ.

المتعلم يعلِّم. لم يؤسس طرابيشي نظاماً فكرياً أو فلسفياً، وبرغم تعدد معارفه وحقوله ومجالاته، على أنه لم يركب من هذه الأنظمة الفكرية من تقاطعها وإحالتها إلى بعضها بعضاً، والتوليد منها. لم يركب منها نظاماً خاصاً، لقد بقي المتعلم الذي لا يزال يختم علماً وموضوعاً ليباشر علماً وموضوعاً آخرين. يتعلم من الأوليات حتى النهايات والاستنتاجات، من الألف إلى الياء، وإذا كان الطرابيشي يتعلم ويبقى على الدوام متعلماً فهو يفعل ذلك ليعلّم وأثره هو من هنا وهناك مدرسة كاملة، لم يترجم فرويد ويقرأ مع طلابه الأثر الفرويدي وإنما سعى إلى أن يستغل التحليل النفسي الفرويدي في النقد الأدبي، هكذا أضاف إلى النقد المقترب النفساني، ولا بد أن ما فعله في هذا الحقل جدير بأن يُدرّس وجدير بأن يعكف عليه المدرّسون وأن يعكف عليه التلامذة والطلاب والمتعلمون. أضاف طرابيشي بذلك إلى النقد الأدبي آلة فهم وتحليل، وأضاف مساراً جديداً للنقد الأدبي.
في رده على الجابري، كان طرابيشي المتواضع يقول فكره وتحليلاته وخلاصاته واستنتاجاته عن طريق محاورته المستطيلة المتقصية للجابري، وفي نقده للجابري كان يكشف بالدرجة الأولى ضحالة عقلانية الجابري ودغمائيتها، وبالمقابل كان يرسي وجهة أخرى في قراءة الغرب وفهم الغرب بدل وجهة النظر الجابرية التي لا تفعل سوى عرض يتسم بالدارجية والتسطيح للغرب. ينتقد النمط الغربي الذي نمْذَجه الجابري ويشرح كيف ان هذا النمط مبسّط وسطحي وأحياناً زائف، وأن الغرب الحقيقي أمر آخر وينبغي قراءته ورؤيته من الداخل لا من الهوامش والمصطلحات الدارجة، وأن عقلانية الجابري التي يحاكم بها التراث، ليست عقلانية الغرب الحقيقية، لكن الأهم في بحث طرابيشي هو نقده لتراثية الجابري فمعايير الجابري في قراءة التراث، هي مثل قراءته للغرب، معايير زائفة وجاهلة أحياناً، هنا يجد طرابيشي فرصة لقراءة التراث مجدداً ولو عبر نقد الجابري، هكذا يطالعنا طرابيشي بفرادة رائعة وتمحيصه للتراث قد تكون أهم ما أنتجه العرب بهذا الصدد ويمكن أن يقف نداً للقراءة الغربية لتراثنا.
* عباس بيضون -السفير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق