بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 2 أبريل 2017

الفيلسوف القتيل

في الثاني من نيسان (ابريل) 1976، قتل الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج في قريته الشبانية التي كانت حينذاك، في العام الثاني للحرب، تحت سيطرة الحزب الاشتراكي. كان الحاج قصد قريته في أوج الاحتقان الطائفي بغية ترسيخ الوفاق والحوار بين أهل البلدة الواحدة، مسيحيين ودروزاً، لكنّ أيدياً طائفية مجرمة انقضت عليه وقطعت رأسه بالفأس. بعد عام تحديداً اغتيل الزعيم والمفكر كمال جنبلاط ولكن سياسياً وليس طائفياً.
قتلة الحاج كانوا أشد هولاً وإجراماً، أرادوا من تصفية هذا الفيلسوف ضرباً بالفأس، تلقين الفكر القومي اللبناني الذي كان يتمثله هذا الفيلسوف ويدعو اليه أمثولة «وطنية». لم يكن الحاج أول لبناني يسقط تحت مقصلة الطائفية، معظم الطوائف أقامت حواجز وقتلت «على الهوية» وهجّرت وارتكبت مجازر رهيبة... ولم تستثن الكراهية الأهلية و «البعثية» مفكرين كباراً مثل حسين مروة ومهدي عامل والشيخ صبحي الصالح وسمير قصير...

كان لا بد من استعادة الفيلسوف القتيل والشهيد كمال يوسف الحاج في الذكرى المئة لولادته (1917) وإعادة قراءة أعماله والأطروحات الفكرية التي قال بها، وبعضها بدا كأنه ناضل من أجلها مثل القومية اللبنانية وفلسفة الميثاق الوطني والفلسفة اللبنانية و «النصلامية» وهي المفردة التي اشتقها من النصرانية والإسلام مدافعاً على طريقة المفكر اللبنانوي ميشال شيحا، عن الميزة الطائفية التي يتفرد بها لبنان، وهو يقول في هذا الصدد: «لبنان هو، دائماً وأبداً، بلد التسوية الطائفية. يجب ألا نطلب منه أن يعاكس طبيعة الأشياء وإلا عرج وحطّم أضلاعه». ولعل سنة كمال يوسف الحاج التي باشرت الاحتفال بها جامعات لبنانية وعربية عدة في ذكراه، هي خير بادرة تكريمية له، فهي تعيده الى المعترك الفلسفي الذي غاب أو غيّب عنه فترة، وتُسقط سوء الفهم الذي جوبه به لا سيما يسارياً وعروبياً. وخلال هذا التكريم، يعبر الحاج «الحواجز» الطائفية والسياسية التي اصطدم بها فكره سابقاً، قبل الحرب وخلالها.
كان كمال يوسف الحاج فيلسوفاً إشكالياً في ما كتب وفكر واستخلص وافترض، وقد اختلف– ويختلف- معه الكثيرون من أهل الفكر أياً كانت مشاربهم، على قضايا ومبادئ، أكثر مما اتفقوا معه ويتفقون. كان حراً في تفكيره ينشد الاختلاف والتفرد، جريئاً ومثالياً في آن واحد. كان وحيداً في فكره القومي اللبناني، لا جماعة له ولا حزب ولا أنصار. حتى بعض مناصري القومية اللبنانية لم يأخذوا بأفكاره مقدار ما أخذوا بأفكار سعيد عقل ومي المر على سبيل المثل. ودعاة العلمانية الرافضون للفكر الطائفي لم يسلّموا بدعوته التوفيقية التي اختصرها بـ «النصلامية» والتي تتخطى منزلقات المأزق الطائفي الحاد. أما المفكرون الملتزمون مسيحياً الذين برزوا خلال الحرب فلم يولوا فكره المسيحي كبير اهتمام ولم يتبنوا أياً من مبادئه. الجبهة اللبنانية المسيحية التي قامت في المرحلة الأولى للحرب وضمت مفكرين ومثقفين من أمثال شارل مالك وجواد بولس وإدوار حنين لم تدعه الى الانضمام اليها. كان الجميع يهابون فكره ولو اتفقوا معه في نواح. ولولا طلابه في الجامعة لكان الحاج مستوحداً في معركته الفلسفية.
من يرجع الى بعض مقولات الحاج اليوم يكتشف استحالتها وإغراقها في المثالية وابتعادها عن أرض الواقع. بل قد يستغربها ويجدها أقرب الى النزعة اليوتوبية التي جعلته يتغاضى عن حقيقة «المشكلة» اللبنانية المعقدة. أي قومية لبنانية هذه التي دعا اليها وشاءها منبثقة من بعدها الطائفي كما يعبر؟ أي طائفية لبنانية هذه التي لا تعني التعصب؟ ماذا كان يقصد عندما قال إن هناك قومية لبنانية وليست هناك أمة لبنانية؟ وإن هناك أمة عربية وليست هناك قومية عربية؟ ما تراها تكون هذه الفلسفة اللبنانية المنبثقة من التاريخ اللبناني؟ هل انتهى لبنان حقاً كما يقول، من سياسة الناطور والمختار ورئيس البلدية والنائب والوزير؟ هل انتهى لبنان كما يقول أيضاً، من الاستسلام للزعامات الإقطاعية وفكرة مرقد العنزة والقمقم وأصبح العالم ينظر اليه مثلما ينظر هو الى العالم؟ أي عالمية لبنانية هذه؟ والأغرب أن الحاج هو الوحيد تقريباً الذي اعتبر وجود الفدائيين الفلسطينيين في لبنان من صميم التاريخ اللبناني وأن قضية الفداء الفلسطيني هي في جوهر المسيحية... غالب الظن أن الحاج لو قدّر له أن يعاصر التحولات التي شهدها لبنان خلال الحروب الطائفية اللبنانية المتلاحقة وما آلت اليه من شروخ وأمراض «وجودية» وانحطاط وخراب لكان أدرك كم انه كان مثالياً بل مبالغاً في مثاليته. وكم كانت خيبته ستكون عظيمة، خيبة وطنية وخيبة ميثاقية وخيبة قومية ووو.
كان كمال يوسف الحاج فيلسوفاً متعدد الشواغل والحقول، كتب أجمل ما كتب في فلسفة اللغة وفلسفة العلاقة بين الجوهر والوجود والفلسفة الإنسانوية والوجودية وفي فلسفة ديكارت وهنري برغسون وفي فلسفة اللاهوت المسيحي. وكتبه التي تناهز الخمسة عشر مجلداً تمثل خلاصة تفكيره وبحثه الدؤوب عن أجوبة للأسئلة الجمّة التي يطرحها الكون والوجود والماوراء.
*عبده وزن

هناك تعليق واحد:

  1. لاتصال للحصول على قرض سريع وسريع.

    أقدم قرض آمن وغير مضمون بنسبة 3٪.

    استعارة مبلغ القرض من 2000 إلى 5000،000jd.

    اختيار مدة القرض من سنة واحدة إلى عشر سنوات.
    saheedmohammed17@gmail.com

    ردحذف