بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 أبريل 2017

«إكسير العمر الطويل» لصادق هدايت: أدب شعبي في انتظار الوصول إلى الغرب

في شكل، عام ما إن يؤتى على ذكر الأدب الإيراني خلال النصف الأول من القرن العشرين، حتى يكون ثمة اسم واحد يخطر في البال هو اسم الكاتب صادق هدايت. ثم حين يُذكر اسم هدايت لن يكون في البال سوى عنوان عمل واحد هو «البومة العمياء». لقد ترسخ هذا الاختصار لأدب أمة في شخص، ولأدب شخص في عمل واحد الى درجة خُيّل معها لكثر ان هدايت لم يكتب في حياته سوى تلك الرواية الغريبة الوجودية السوريالية المهلوسة. لكن الواقع يقول لنا شيئاً آخر وهو أن هدايت، الذي لم يعش سوى 48 سنة اختتمها بالانتحار في باريس، كتب كثيرًا، بل إن القراء الإيرانيين يعرفون الكثير من أعماله الأخرى أكثر مما يعرفون «البومة العمياء» وليس فقط لأن هذه حوربت من الرقابة في بلده، بل لأن القراء أنفسهم لم يقبلوا عليها كثيراً. كانت منغلقة عليهم. ولعل في إمكاننا ان نقول ان قصته الطويلة «إكسير العمر الطويل» تظل دائماً المفضلة من قبل القراء الإيرانيين على رغم عدم شهرتها في الغرب الذي هو من صنع له شهرته على أية حال.
> «إكسير العمر الطويل» التي كتبها هدايت عام 1943 تنتمي الى الأدب الشعبي الرمزي من النوع ذي الشعبية الفائقة في ايران. هي عبارة عن أمثولة تستعمل الكناية والاستعارة لتتحدث عن الواقع ضمن تقاليد الحكاية الشعبية. وهي تروي لنا حكاية صانع أحزمة يرسل ابناءه الثلاثة في حقبة مجاعة قاسية ليبحثوا عن الرزق حول العالم. الأول حسن المحدودب الظهر والثاني حسين المجذوم والثالث أحمد العاقل البريء المختلف تماماً عن أخويه اللذين لا يحبانه لنشاطه ووداعته. وبالتالي نراهما يتخليان عنه عند اول صعوبة تواجههم. وخلال الطريق يلتقي حسن ساحرة توصله الى بلد تراب الذهب حيث يعيش شعب من العميان القذرين الذين لا يفعلون شيئاً طوال ايامهم سوى جمع الذهب وتخزينه في انتظار وصول نبي سيعيد اليهم بصرهم. فيقنعهم حسن بأنه هو النبي الموعود قائلاً لهم ان استعادة البصر ستفقدهم أي أمل بالسعادة ولذا عليهم مواصلة تكويم الذهب. وفي تلك الأثناء يكون حسين قد وصل الى بلد «القمر اللامع» حيث يعيش قوم من الصمّ البكم الذين يمارسون تهريب المخدرات والشراب ليبيعوها الى شعب تراب الذهب الذي لا يمكنه العيش من دونها. وسرعان ما يستولي حسين على عقول الصم البكم، ما يستكمل حلقة استفادته وأخيه من مصائب أولئك الناس. ويعيش حسن وحسين في أقصى درجات اليسر والثراء وقد نسيا اباهم الباقي في انتظارهم في بلاد المجاعة.
> في تلك الأثناء يكون الأخ الثالث، أحمد، الذي اعتقده أخواه ميتاً بعدما تخليا عنه، قد وصل الى بلاد الربيع الأزلي إذ حمله طائرر السيمورغ على جناحه. وهو اكتشف هناك شعباً سعيدًا يعيش من كده ويتمتع بحياته بالعمل والرقص والغناء. فينضم احمد الى ذلك الشعب بل حتى يتزوج راعية حسناء يدرك انها حبيبته. ثم ذات يوم يقرر العودة لمساعدة أخويه وأبيه فيمتطي جناح السيمورغ مجددًا وقد تزود بكمية من ماء المنطقة. وهو حين يصل الى بلاد العميان والصم البكم ويصب على هؤلاء بعض الماء حتى يستعيدوا النظر والسمع والكلام. بيد أن اخويه الطاغيين يرميانه في السجن بتهمة التحريض والتمرد، وقد حكما عليه بالموت. ولكن هنا من جديد ينقذه طائر السيمورغ، في وقت يكون سكان تراب الذهب والقمر اللامع قد رأوا السعادة التي يعيش فيها سكان بلاد الربيع الأزلي فحطموا مصافي الشراب وطواحين الأفيون وعاقبوا الطغاة فيما يعود السيمورغ بأحمد وامرأته لإنقاذ أبيه وشعبه من الجوع.
> في إحدى ليالي عام1951، انتحر صادق هدايت في باريس حيث كان يعيش منذ سنوات، ليدُفن في اليوم التالي في مقبرة الأب - لاشيز الباريسية. في ذلك الحين لم يكن الاسم يعني شيئاً للكثيرين، ومع هذا فإن اشخاصاً لا يقلون اهمية عن يوجين يونسكو وآرثر اداموف وجان كوكتو وأندريه بريتون كانوا في عداد المحتفين بصادق هدايت خلال اقامته في فرنسا. كانت شرقية صادق هدايت تثير اعجابهم بالطبع، وكانوا يرون غريباً ان يأتيهم من ايران التي بالكاد يعرفون عنها شيئاً، كاتب يضاهيهم بأناقة كتابته وغرابتها. اما هو فكان همه الأساس ان يهرب من شرقيته تلك. وكانت هنا مأساته الكبرى. انها لم تكن المأساة الوحيدة التي ادت به الى الانتحار، لكنها كانت واحدة - على الأقل - من اسئلته القلقة طوال وجوده القصير في هذا العالم. ولكن بين ان تكون مأساة صادق هدايت مأساة خاصة به، وأن تكون مأساة عامة تمس معظم مثقفي العالم الثالث والبلدان المتخلفة، الذين حدث لوعيهم الخاص والمجرد أن تجاوز، وعي مجتمعاتهم، او الصورة التي كانت متكونة لديهم عن وعي مجتمعاتهم، خطوة لا يمكن للمتحري عن حياة صادق هدايت ومأساته الا ان يخطوها. بخاصة أن ثمة ما يغرينا بأن نرى في الأمر كله ما يمت بصلة الى استقالة المثقفين النخبويين في العديد من بلدان العالم الثالث، طوال السنوات التي شهدت تخمّر شتى صنوف القمع والكراهية والذل والظلم. بيد أن حالة - متطرفة؟ - مثل حالة صادق هدايت يمكنها ان تلقي اضواء كثيرة على ما يحدث في الجزائر أو في مصر - من اغتيال مؤلم للمثقفين - أو حتى على جذور العنف الذي جابه مسألة سلمان رشدي في حد ذاتها.
> وفي هذا السياق، قد يبدو من المفيد الى حد كبير أن نقرأ الفصل الذي تفرده المستشرقة الألمانية دوروثيا كرافولسكي لصادق هدايت وقصته «البومة العمياء» في كتابها المترجم الى العربية «العرب وإيران». فهي بعد أن ترسم صورة واضحة لأيديولوجيا رضا خان «المحمولة بمشاعر قومية ايرانية جاءت على حساب التطور التاريخي للبلاد، وأتباعاً لمثل أتاتورك»، تفيدنا بأن رضا شاه قد شاء ان يحدّث الأمة الإيرانية ويُعَلْمِنها بصورة خاطفة، وأن يصنع منها دولة كبيرة وقوية نداً للأمم الأوروبية. وترى كرافولسكي ان رضا شاه كان يمكنه أن يستند «الى المشاعر القومية القوية للنخبة الإيرانية المثقفة التي دأبت منذ وقت طويل على البحث عن سبب رئيسي للتخلف في البلاد (...) وقد وجدت ضالتها في العرب الذين فتحوا ايران في القرن السابع الميلادي ونشروا الإسلام فيها». لذلك - تقول المستشرقة - «ما أمكن للمثقفين الإيرانيين ان يجدوا العظمة الإيرانية الا في مجرى عهود ما قبل الإسلام. فطوروا ايديولوجية تعتبر ان العرب هم الذين انهوا بالقوة عصور العظمة الإيرانية في فترة ما قبل الإسلام، كما انهم هم الذين دمّروا الثقافة الإيرانية». وترى دوروثيا كرافولسكي ان صادق هدايت، المولود عند أوائل هذا القرن، والذي درس التاريخ الإيراني ما - قبل - الإسلامي في باريس، كان واحداً من تلك النخبة المثقفة ويحمل ايديولوجيتها. صحيح أن المستشرقة ترى أن روايته «البومة العمياء» كانت في المقام الأول «صياغة أدبية لصرخة الاحتجاج ضد خنق الفنان والمثقف وإسكاته في عهد ذلك الشاه»، لكنها تحللها، في ذلك النص، انطلاقاً من عزلة النخبة المثقفة عن الشعب وهمومه. وهي بعد أن تربطها بجذورها - الممتدة في أرض فرنسا ورمزييها، لا في أرض ايران - وتقارن بينها وبين رواية «عكس السير» للفرنسي ك. هويسمان، تكشف كم أن العمل جاء فردياً - على غناه الإبداعي - منعزلاً عن مجتمعه، على رغم أن هناك بين النقاد الإيرانيين من رأى أن الرواية تبشر بقيام ثورة ايرانية شعبية حقيقية!
> غير ان المهم في هذا الكلام أن الباحثة ترينا كيف أن السلطة استطاعت، انطلاقاً من موقف الإنتلجنسيا الإيرانية المعادية للعرب وللإسلام، وبالتالي لحقبة اساسية من تاريخ ايران، أن تشن عملية تحديث قسرية سرعان ما وجدت نفسها فيها على صراع حتى مع الإنتلجنسيا نفسها، لأن هذه الأخيرة مالأت السلطة في موقفها المعادي من المجتمع والإسلام على أمل بأن يتواكب التحديث، على النمط الغربي، مع استيعاب «دروس الديموقراطية الغربية». لكن المثقفين سرعان ما اكتشفوا أن السلطة قد حيّدتهم وأن الديموقراطية لا تمثل جزءاً من مشروعها.
 * ابراهيم العريس

هناك تعليق واحد:

  1. لاتصال للحصول على قرض سريع وسريع.

    أقدم قرض آمن وغير مضمون بنسبة 3٪.

    استعارة مبلغ القرض من 2000 إلى 5000،000jd.

    اختيار مدة القرض من سنة واحدة إلى عشر سنوات.
    saheedmohammed17@gmail.com

    ردحذف