بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 2 يوليو 2017

تلفيق جغرافية التوراة

في وقت مبكر يعود إلى القرن الثاني الميلادي بدأ الحجاج المسيحيون الأوائل القادمون من مختلف أجزاء الإمبراطورية الرومانية يصلون فلسطين ليعاودوا تعقب خطوات يسوع وحوارييه. وفي أثناء طوافهم في أرجاء البلاد بمجموعات صغيرة كان هؤلاء يتوقفون للصلاة والتأمل في الأماكن التي كان سكانها المحليون يرشدونهم إليها على أنها مواقع نشاط يسوع وآلامه. ولكن الحج المسيحي بدأ، مع حلول القرن الثاني، يأخذ بالضرورة طابع التنقيب الأثري لأن المشهد كان قد بات شديد الاختلاف عما ورد في العهد القديم والجديد.
كانت النتيجة نوعاً جديداً من الحج معادياً لأهل البلاد ومسوغاً لاستعمارها وتحويلها إلى أرض التوراة، وبذلك أُعدّ "مسرح الأثريات" بأسلوب يعكس الهوس الديني بالتوراة فأعيد تجسيد فلسطين الكتابية المألوفة عبر الاستخدام التجسيدي التقمصي لا سيما أنَّها مقدسة بنظر التراث الديني اليهودي ـ المسيحي. وبعبارة أخرى، كانت فلسطين تتعرض لعملية نقل وتحويل زمانية تفضي إلى جعل الماضي التوراتي حقيقة، إلا أن التوجه المنظم والهادف والمرتبط بالدوائر الاستعمارية والتوجهات اليهودية راح يتشكل في القرون السابقة الأخيرة وخاصة بعد انتهاء الحروب الصليبية والتقلبات التي حدثت في أوروبا.
مع حلول عام 1838 تقريباً، قام إدوارد روبنسون، وهو استاذ اللاهوت الأمريكي، وبالتعاون مع القس الألماني المتحدث بالعربية، إيلي سميث، برحلة استكشافية إلى فلسطين، كان مخطط رحلتهما بسيطاً: فمثلهما مثل بني إسرائيل، كانا سيغادران مصر القديمة للتوغل عبر البراري المقفرة لشبة جزيرة سيناء. وبعد زيارة موقع جبل سيناء، حيث تلقى موسى الوصايا العشر، كانا سيتوغلان في الأرض المقدسة، متوقفين لبعض الوقت في القدس، ومتقدمين شمالاً إلى سامريا والجليل، ليختما رحلتهما، آخر الأمر، في مقر البعثة الأمريكية ببيروت.
خلال هذه الرحلة، بحثًا إدوارد روبنسون وإيلي سميث، عن المواقع التي وردت في الكتابات الدينية، عن قناعة بأن أسماءها العربية الحالية تتضمن أصداءً من أسمائها العبرية الأصلية، ففي أثناء عمله كمبشر كان إيلي سميث قد وضع قائمة للأسماء العربية لقرى فلسطين، وكان من شأن ذلك أن يساعد أستاذ العبرية روبنسون على مقارنة أوجه الشبه اللغوية مع مختلف المواقع المذكورة في الكتاب [المقدس].
ومن خلال المطابقة بين الأماكن والأسماء، استطاع روبنسون أن يتعرف على أشكال التناظر الدقيق بين أسماء المكان العبرية القديمة ونظيرتها العربية الحديثة، فيحدد عشرات المواقع القديمة: فقرية عناتا، لم تكن فيما يبدو، إلا "عنتوت" الكتابية، مسقط رأس النبي إرميا؛ وجباع كانت هي "جبعة" إحدى مدن بنيامين؛ ومخماس بدت مناسبة تماماً لساحة معركة شاؤل في «مخماس»؛ وبيتن كانت "بيت إيل" محطة توقف إبراهيم وموقع حلم يعقوب الشهير؛ وممَّا لا شك فيه أن الجب كانت هي "جبعون" الكتابية حيث قام يوشع بتجميد الشمس في مكانها؛ وقرية السموع كانت "اشتموع"؛ والجش هي التسمية العربية للاسم العبري "جوش هالاف".

يقول د. عصام سخنيني، في كتابه "الجريمة المقدسة": كثيرا ما اتسم هذا المنهج بالتعسف والخلو من أدنى قدر من المعقولية. نأخذ مثلا على ذلك أسم قرية "يعاريما" أو قرية عاريم التي وردت في "الكتاب"، وقد كتبها روبنسون بالإنكليزية (Kirbath- Jearim) وقال إن معناها يعني "قرية الغابات"، وقد وجد في فلسطين في زمنه موقعاً باسم قرية "العنب" فقال إذ هذه القرية هي نفسها قرية يعاريم (أو الغابات) وقد حدث إحلال كلمة العنب محل الغابات. ومثل آخر على هذه السماجه العلمية كان عندما قرأ روبنسون اسم قرية «سوكوه» كما جاء في "الكتاب". (وهو يكتبها بالإنكليزية (Socoh فقال إن هذه هي قرية شويكة (قرب طولكرم) بعينها! 

وبالرغم من ذلك أطلق أحد المبشرين على روبنسون لقب "المعلم الأكبر للقياس في العالم"، وذلك بعد أن تمكن من استعادة ماض أسطوري، ورسخه في واقع اليوم. وكانت هذه الجولة التجريبية، حسب كلام روبنسون فيما بعد: "قد قادتنا عبر مشاهد مرتبطة بالعديد من الأسماء والأحداث والأفعال التاريخية مثل إبراهيم ويعقوب، وسليمان وشاؤل، ويونان، وداود، وصموئيل؛ فقد تمكنا من تحديد الأماكن التي عاشوا ونشطوا فيها، واستطعنا أن نتعقب ما يمكن اعتباره خطواتهم ذاتها".
بعد الدرس والبحث نشر روبنسون مؤلفه "البحث عن الآثار المقدسة في فلسطين والاقاليم المجاورة" (Biblical researches in Palestine and adjacent Regions) في إنكلترا وألمانيا وأمريكا في آن واحد في ثلاثة أجزاء 1841، ثم لخصها في جزئين. ونشر الثالث 1856 فمنحته الجمعية الملكية الجغرافية [البريطانية] الوسام الذهبي تقديراً لبحوثه. 
يقول مايكل بي. أورين، في كتابه "القوة والإيمان والخيال أمريكا في الشرق الأوسط منذ 1776 حتى اليوم": كان إدوارد روبنسون قد قام برحلة استكشافية ثانية إلى فلسطين عام 1852 ، ونشر مجلدين ضخمين من أبحاثه، وأصبح بذلك أول أمريكي تمنحه جمعية لندن الجغرافية الملكية ميدالية ذهبية. وأسس أيضاً حقلاً معرفياً جديدا تماما، هو علم الآثار الإنجيلي، وهو علم أمريكي خالص، ولم يكن هذا العلم متاحا للعلماء وحدهم، بل لرجال الدين والعامة أيضاً، وجذب لفلسطين أمريكيين آخرين أيضاً، مزجوا بين عقيدتهم وإيمانهم من ناحية وبين رغبة قوية في الاستكشاف، تماما مثل روبنسون.
يري نيل سلبرمان، في دراسته "من الدمار إلى العمار أثر مفهوم توراتي في علم الآثار الشرق أوسطي" أن كلمات روبنسون، شكلت دراسة الجغرافيا التاريخية لفلسطين "محاولة أولي لكشف النقاب عن كنوز الجغرافيا الكتابية.. التي طالما ظلت هاجعة دون استكشاف قروناً من الزمن، حتى باتت مغطاة بغبار تلك القرون وركامها، فأصبح وجودها بالذات من الأمور المنسية".
يستحضر محمد الأسعد، في كتابه "مستشرقون في علم الآثار"، شهادة عالم الآثار الإيرلندي ماك آلستر، الذي يقول: عبر [روبنسون] سيناء إلى فلسطين، وبدأ جولته التي استغرقت شهرين من بير سبع حاملاً توراته بيد وخريطة بيضاء باليد الأخرى مؤشراً على الأماكن بأسماء توراتية. وقام عام 1852 بزيارة ثانية، وأدخل إضافات كثيرة على المادة التي جمعها خلال رحلته الأولى وألصقها بالأرض الفلسطينية.
كانت اهتمامات روبنسون محدّدة بشدة، فقد كرس نفسه للملامح الأرضية، وبخاصة تلك الموصوفة في التوراة انطلاقاً من افتراض مسبق، وهو أن هذه الأخيرة تصف التضاريس التي يتجول فيها. كان علم الآثار بالنسبة له بلا أهمية تذكر، وكذلك الفولكلور والتاريخ الطبيعي والفروع البحثية الأخرى. كان غرضه الرئيس التعرف على المواقع التوراتية معتمداً على ما حفظته اللغة المتداولة من أسماء الأماكن القديمة، وهذا نهج خطر، كما يقول آلستر، لأن هذا التعرف يجب اختباره بوسائل أخرى، وهناك أدلة على أن أسماء الأماكن لم تظل ثابتة عبر العصور، وفي أحوال كثيرة حين يكتب الاسم القديم والحديث بالحروف اللاتينية يوحي بتماثل خادع يخفي انعدام التطابق بين الاسمين. 
ولم يقتصر عمل روبنسون، كما سيقول إدوارد فوكس منذ وقت قريب، على انتهاك مبدأ أولي من مبادئ الجغرافية وضعه في الأزمنة القديمة جغرافي وفلكي القرن الثاني الميلادي بطليموس، المبدأ القائل أن التضاريس الأرضية أكثر أهمية من الخريطة، حين رأي وعمل على أن الخريطة التوراتية أكثر أهمية من التضاريس الأرضية، بل ارتكب تشويهاً خطيراً، وهو عدم الاهتمام بأي شيء في فلسطين وتاريخها لا شأن له بتوراته.
أحمد الدبش - كاتِب وباحِث في التاريخِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق