بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 يوليو 2017

«رجل حرّ» لموريس باريس: تأمل أخير قبل العمل السياسي

لو أن كتاب الفرنسي موريس باريس «رجل حرّ» الذي يشكل جزءاً من ثلاثيته «الروائية» «تبجيل الأنا» أستعيدت ذكراه خلال النصف الثاني من القرن العشرين لكان من شأنه أن يُهاجَم ويتعرض للسخرية كنصّ غيبي يقف ضد الفكر التنويري السائد ويناوئ الكثير من الأفكار التقدمية بما فيها المساواة بين الرجل والمرأة وتغليب العقلانية. أما اليوم فيبدو الكتاب تحت ضوء بالغ الاختلاف. يبدو متلائماً مع الأزمان التي نعيشها ومع العودة الى ما قبل العقل وربما الى ما دونه أيضاً.
> فهذه «الرواية» التي دنا باريس في صياغتها من «اعترافات» جان جاك روسو، من دون أن يصل الى مستواها، كانت بالنسبة الى الكاتب اليميني الفرنسي يوم صدورها عند نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر جزءاً من معركة سياسية يخوضها باريس بالتحديد ضد أناتول فرانس ثم ضد مناصري درايفوس في معمعة البحث عن فكر يناوئ الفكر اليساري الذي كان منتشراً وله الغلبة. باختصار هو الأدب التأملي الذي غاب عن الواجهة قرناً من الزمن ونيّفاً ليعود اليوم مطالباً بحقوق الشهرة. والجزء المعنون «رجل حرّ» من الثلاثية - التي تضم أيضاً «تحت عين البرابرة» و «حديقة بيرينيس» -، يحدثنا عن البطل الراوي الذي هو بالتأكيد الأنا/الآخر لباريس نفسه، وقد اشتاقت روحه للتعرف على العالم من دون أن يخسر نفسه. ولذا يصطحب اول الأمر رفيقه سيمون وبعض الكتب والذكريات ويتوجه الى جزيرة جيرزي وسط البحر الفاصل بين فرنسا وإنكلترا وقد أدرك أنه لكي يكون حقاً نفسه، يتوجب عليه التمازج مع الطبيعة وقراءة نصوص القديس إغناطيوس دي ليولا بعيدًا من تأثير أي كائن بشري. ولا سيما بعيداً من تأثير أية امرأة لأن «شيم النساء إلهاء الرجال وإبعادهم عن التفكير السليم» كما يخبرنا.
> لا يجهل بطل الرواية الشاب، ان العالم مليء بالأوهام والخدع، وأن من أسلم الطرق للتخلص من ربقة كل هذا، الغوص في القراءة: في قراءة المؤلفين الذين عزلوا نفسهم عن البشر الآخرين وراحوا يتأملون «بعيداً من الكثرة الصاخبة». وهكذا ثنّى على قراءته نصوص دي ليولا بقراءته نصوصاً لدي بوف وكونستان تكشف، كما يخبرنا هو نفسه، عن المعركة التي خاضها كل منهما في سن مراهقته كي ينتصر على الحياة. ومن الواضح ان البطل الشاب خرج من عزلته تلك ومن قراءاته وهو يعتقد نفسه خالقاً لدين جديد يقوم فقط على التأمل الروحي. لكنه خرج أيضاً وهو على قناعة بأن تلك التربية الروحية التي حازها في جيرزي، لن تكتمل إلا إذا تبعتها تربية تتحقق عبر الاحتكاك بطبيعة منطقة اللورين مسقط رأس باريس نفسه، ثم انطلاقاً من هناك، تربية أخرى إضافية، فنية هذه المرة، لا يمكن الحصول عليها إلا في ارتياد الآفاق الإيطالية غير البعيدة وصولاً طبعاً الى البندقية التي ستكون هي الامتحان الأخير الذي سيقرر مصير بطلنا الشاب الباحث عن الروح في عالم يصفه لنا هو بأنه عالم «تضمحلّ فيه مكانة الروح أكثر وأكثر». لكنه لن ييأس، وذلك لأن فنون الكبار من لوحات وكاتدرائيات ومعارض يحتك بها في البندقية، ستزوده بكل تلك القوة الروحية. القوة التي إذا خلطنا الأمور ببعضها بعضاً في نهاية المطاف، ستكون هي نفسها القوة التي ستخبرنا سيرة موريس باريس أنها برزت لديه حين انتهى من كتابة «رجل حرّ» وأحسّ انه بات قادراً على خوض.... معاركه السياسية متحولاً الى نائب يميني في البرلمان وإلى واحد من أكثر الكتّاب مشاكسة على... أناتول فرانس وإميل زولا.
> ومع هذا لا بد أن نتذكر هنا العبارة التالية: «تباً لذاك الذي لا يتجه الى اليسار وهو في العشرين من عمره» فهي إذ تنسب عادة الى موريس باريس، تستخدم كنوع من التبرير لتوجه الشبيبة، في فرنسا ولكن في العالم كله كذلك، في اتجاه الأفكار اليسارية. والمقصود باليسارية هنا، نوع من التمرّد على المجتمع وقيمه بحثاً عن مثل عليا وعن تجاوز سياسي واجتماعي. ولكن الطريف ان صاحب هذه الجملة، لم يتجه هو نفسه الى اليسار، لا حين كان في العشرين من عمره، ولا بعد ذلك. فهو عند بداياته كان صاحب فكر يميني - كاثوليكي محافظ. وصاحب نزعة قومية (بل شوفينية) فرنسية جعلته يعتبر واحداً من الآباء الشرعيين لليمين الفرنسي المتطرف. ولكن، اضافة الى ذلك، كان موريس باريس كاتباً كبيراً. حتى وإن كان الكثيرون يميلون الى نسيان ذلك اليوم، غير ذاكرين عن صاحب «الجبل الملهم» و «حديقة على نهر العاصي» سوى انه شريك شارل مورا، وأستاذ دريو دي لا روشيل، والإثنان من أعمدة الفكر اليميني المتطرف خلال النصف الأول من القرن العشرين.
> مهما يكن، ومهما كان تحليلنا لمواقف موريس باريس السياسية والإيديولوجية، ومهما كان شأن يمينيته، فإن هذا الكاتب لم يقدس في نهاية الأمر سوى ذاته، بمعنى انه كان واحداً من كبار كتاب «الأنا» في القرن العشرين. ولئن كان هذا الأمر يتجلّى من خلال تحليل دقيق لمواقفه وكتاباته. فإنه يتجلّى بكل وضوح من خلال ثلاثيته الأولى التي تظل أفضل ما كتبه طوال حياته الصاخبة، والثلاثية تحمل بالتحديد عنوان «تبجيل الأنا» كما أشرنا أعلاه.
> ولد موريس باريس عام 1862 في مدينة شارم - سور - موزيل في مقاطعة اللورين التي أمضى جزءاً من حياته اللاحقة وهو يطالب بعودتها الى السيادة الفرنسية، بعد ان كان الألمان قد استعادوها قبل حين. ثم أمضى في باريس، سنوات يفاعته في دراسة ابتدائية وثانوية في مدينة نانسي قبل ان ينتقل الى باريس لدراسة الحقوق، لكنه هناك أولع بالأدب وأدب التاريخ والنقد على وجه الخصوص، وكرس سنوات لدراسة أعمال كبيري النقاد والمؤرخين الأنسيين في ذلك الحين هيبوليت تين وإرنست رينان. وهو بعد ذلك مباشرة اكتشف ذاته، وراح في تحليل لأناه كان هو الذي قاده الى كتابة ثلاثيته الأولى التي اعتبرت في حينه أشبه بـ «أنجيل للذات الفردية». غير ان فردية باريس لم تمنعه من ان يتحوّل وبسرعة الى قومي متحمس. وهكذا ما ان بلغ السابعة والعشرين من عمره حتى بدأ يخوض معترك السياسة، فرشح نفسه لنيابة منطقة نانسي ونجح في ذلك بفضل برنامج قام على اساس المطالبة بإعادة الألزاس واللورين الى فرنسا، كما على اساس التوقف عن انتزاع الأراضي الفرنسية، اضافة الى اهتمامه بإبقاء المستعمرات الفرنسية خاضعة لملكية وطنه. ولقد عبّر باريس عن مواقفه السياسية المتطرفة تلك في ثلاثية جديدة حملت عنوان «رواية الطاقة القومية»، كتب اجزاءها بين 1897 و1902، وعبّر فيها عن تزاوج بين النزعة الفردية والحس القومي. وفي تلك الأثناء كان قد تعرّف الى شارل مورا ووضع معه البرنامج التأسيسي لـ «الحزب القومي» الذي ستتفرع عنه لاحقاً معظم التنظيمات والأحزاب اليمينية التي ساندت الاحتلال الألماني لفرنسا. غير انه لا يمكن اتهام باريس بالوقوف الى جانب مثل ذلك الاحتلال، لأن هذا الكاتب رحل عن عالمنا عام 1923. المهم ان باريس كان، في سنواته الأخيرة قد اكتشف الكاثوليكية التي اضحت بالنسبة اليه جزءاً لا يتجزأ من نزعته القومية، وهذا ما عبّر عنه في شكل خاص في كتابه «التل الملهم» الذي سيعرف على نطاق واسع باسم «الجبل الملهم» وسوف يوحي للكثير من كتاب الدول المتخلفة بتشكيل تيارات وجمعيات ادبية تحمل اسمه وتحاول ان تسير فكرياً على هديه! في هذا الكتاب الذي وضعه في 1913 برهن باريس كيف ان النزعة القومية والنزعة الكاثوليكية متكاملتان.
> اضافة الى ذلك الاهتمام بالسياسة، لم يفت موريس ان يهتم بالأدب الخالص، ولا سيما بعد رحلات عدة قام بها الى ايطاليا وإسبانيا واليونان، وبعض البلدان العربية (سورية مثلاً) وهو عاد من تلك الرحلات بنصوص لم يغلب عليها اي طابع ايديولوجي فمكنته من ان تكون له مكانة حقيقية في عالم الأدب، ومن تلك النصوص: «حديقة على نهر العاصي» الذي كتبه عام 1922 وكان واحداً من آخر كتبه، اذا استثنينا مذكراته البالغ عدد اجزائها 14 جزءاً والتي نشرها ابنه بعد موته، اعتباراً من 1929 ولم يكتمل نشرها الا في 1957.
براهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق