بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 14 ديسمبر 2017

الطريق «المقطوعة» ... إلى القدس

أتذكر قصيدة سياسية للشاعر السوري فايز خضور يهجو فيها العرب «المتباكين» على القدس داعياً إياهم إلى الكف عن ذرف الدموع بعدما صارت كل الجدران العربية «حائط مبكى». كتب الشاعر هذه القصيدة في لحظة من الأسى الشديد عقب الهزائم العربية المتوالية، وهي لحظة يسترجعها العرب اليوم بعدما أعلن «العراب» الأميركي بصلافته المعهودة، القدس عاصمة إسرائيلية. وإن كان هذا الإعلان آحادياً وفردياً ومتهوراً وعرضة للنقض قانونياً و «أممياً»، فهو يمثل طعنة في صدر فلسطين والعالم العربي ويفضح التقاعس أو التخاذل الذي يصيب العرب، واللامبالاة التي تكاد تخرجهم من معترك القرار. لكنّ القدس، مهما سعت أميركا وإسرائيل إلى تهويدها أو «أسرلتها»، تظل مدينة فلسطينية وعربية، وقبلة المسيحيين والمسلمين في العالم. إنها القدس الشريف، قدس المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وسواهما من معالم الإسلام والمسيحية. وحتى الآن لم يكتشف علماء الآثار الإسرائيليون في القدس شاهداً أثرياً واحداً يجعلونه ذريعة لتبرير احتلالها الجائر. إنهم يستميتون من أجل اكتشاف جدار يهودي قديم أو مقبرة يهودية أو بقية هيكل ومذبح... حتى «حائط المبكى» يقول مؤرخون عرب إن حجارته رصفت في العهد الفاطمي.
ينتفض الشارع العربي اليوم ضد القرار الأميركي المتعنّت، ويعلن رفضه أياه ويحتجّ ويرفع الصوت عالياً. والخوف أن تخفت الانتفاضة بعد حين، كما خفتت معظم الانتفاضات السابقة من غير أن تبلغ غاياتها النبيلة. فالعرب لم يفقدوا القدس مقدار ما ضلّوا الطريق إليها منذ عقود، ومازالوا. ولعلهم ضلّوا الطريق قصداً وعمداً وعن إدراك. والمقصود بالعرب هنا طبعاً الزعماء والقادة وبعضهم من الدكتاتوريين، وليس الشعب العربي الذي طالما كان مغلوباً على أمره لا يملك سوى الشارع يمارس فيه نضاله أو احتجاجه ببراءة وعفوية. الجميع، زعماء ومناضلين وثوريين وحزبيين، يعرفون جيداً خريطة الطريق التي تقود إلى القدس، لكنهم يتجاهلونها ويغضّون عنها ويرفضون سلوكها لأسباب معلومة، وغايات ومصالح ومطامع.
كم أخطأ الزعيم الفلسطيني أبو إياد عندما أعلن، عشية اندلاع الحرب الأهلية في لبنان العام 1975، أن طريق القدس تمر في جونية، المدينة الساحلية التي كانت عقر اليمين المسيحي حينذاك. شاءت القيادات الفلسطينية التي غرقت في وحول الحرب اللبنانية، كما ضاعت من قبل في متاهة حرب «أيلول الأسود» في الأردن، أن ترسم طريق القدس على أنقاض المدن المسيحية التي اتهمتها بـ «العمالة» الإسرائيلية. لكنّ الحرب العبثية التي سادت لبنان آلت إلى نهايات غير سعيدة بتاتاً لا لبنانياً ولا فلسطينياً، لا سياسياً ولا عسكرياً... حافظ الأسد ارتأى أن مصلحة البعث تقتضي أن تمر طريق القدس عبر بيروت والمخيمات الفلسطينية في لبنان ومنها مخيم تل الزعتر الذي ساهمت قواته في قصفه واحتلاله، وليس عبر الجولان المحتل مع أنه الأنسب عسكرياً. احتلّ جنود البعث بيروت ومناطق عدة بعدما قصفوها وأحدثوا فيها خراباً
رهيباً وحاصروا المخيمات الفلسطينية وزرعوها قذائف ورصاصاً. كان هذا ما تقتضيه سياسة جبهة الصمود والتصدّي التي لم تطلق رصاصة على إسرائيل. ويذكر الكثيرون كيف أن جنود البعث السوري لم يواجهوا الغزو الإسرائيلي لبيروت العام 1982 ففروا هاربين تاركين الساحة للفلسطينيين واليسار اللبناني. صدام حسين رأى أن الطريق إلى القدس تمر في الكويت فغزاها بعدما كانت الدولة الكويتية ساندته بقوة في حربه مع إيران، أو مع جماعة ولاية الفقيه المتوالية التي كان تصرّ على أن طريق القدس تمرّ في كربلاء ثم في البحرين وسواها. وفي الفترة الأخيرة بُعيد اندلاع الثورة السورية التي استحالت حرباً ضروساً، أعلن بشار الأسد وإلى جانبه حزب الله الإيراني الهوية، أن طريق القدس تمرّ في مدن مثل القلمون وحمص والزبداني ودرعا والسويداء... ويجب عدم نسيان مخيم اليرموك الفلسطيني الذي دكّته طلائع البعث السوري بنيرانها. أما الأصوليون الظلاميون مثل النصرة وداعش وسواهما فكانت طريقهم إلى القدس تمرّ في شتّى المدن والقرى العربية فراحوا يدمّرون ويسبّون ويقتلون بلا هوادة.
كان الشاعر محمود درويش يقول إن الطريق إلى البيت أجمل من البيت، لكن الطريق إلى القدس لم تكن يوماً أجمل من القدس. إنها الطريق التي لم يسع أيّ نظام أو حزب أو جيش أن يسلكها أصلاً ليصل إلى مدينة السلام. وصلوا إلى البديل ولم يصلوا إلى الأصل. وصلوا إلى قلب المدن والقرى والمناطق العربية فدمّروا وخربّوا خائضين حروباً أهليّة لم يخسر فيها سوى العرب أنفسهم. أنظمة دكتاتورية خاضت معاركها بشراسة ضد أهل البيت والشارع والبلدان الشقيقة لتبقى هي وتدوم وتخلد «إلى الأبد». أما حرب تحرير الأراضي المحتلة ومنها الجولان مثلاً، فكانت تؤجّلها دوماً إلى حين حلول الساعة. ولكن لا يمكن تناسي مناضلين حقيقيين ووطنيين كبار، أنقياء وأصفياء، غير طائفيين وغير مذهبيين، فلسطينيين وعرباً، بذلوا دماءهم في حروب الكرامة ومعارك تحرير فلسطين، استشهدوا وجُرحوا وكانوا القدوة والمثل الصالح.
* عبده وزن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق