بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 16 ديسمبر 2017

القدس العربية حكاية أمويّة… فزنكيّة… فمهدويّة؟

القدس العربية هي في الأساس حكاية أموية. اختارها معاوية ابن ابي سفيان كي يبايع له بالخلافة والملك في تموز/يوليو 661 ميلادية. بويع على «جبل الهيكل»، في المكان الذي سيشمل بعد ذلك بـ»الحرم القدسي»، ثم كانت له زيارة إلى كنيسة القيامة وقبر مريم. أغلب الظن أنه اتبع سياسة دينية تأليفية بين مشارب الإبراهيمية المختلفة. والأهمّ: كان يمنّي النفس بالفتح الاعظم في زمانه: القسطنطينية. رؤية ابنه يتوج امبراطوراً عليها. ما كان لتوريث العرش من تسويغ الا بهذا. وعلى هذا الاساس سارت العرب لفرض الحصار الاول على القسطنطينية، في حملة 674-678. فشلها هو الذي أدى إلى القطع النهائي بين الإسلام المبكر وبين المسيحية، وصيرورتهما ديانتين مستقلتين عن بعضهما البعض. 

أسند الأمويّون مشروعية ملكهم على تعظيم بيت المقدس. ظلّ خلفاؤهم يبحثون إحتمال إتخاذها عاصمة. تعظيمهم لها كان خياراً نقيضاً لما فعله الإمبراطور جوستنيانوس في القرن الذي سبق، حين أنهى فترة من المداولات البيزنطية حول إعادة بناء هيكل سليمان، وقرّر، في سياق سياسة قمعية له ضدّ اليهود تبتغي تنصيرهم بالقوة، أن يبني بديلاً عن الهيكل في القسطنطينية، وليس في القدس، من خلال كنيسة «أيا صوفيا»، وأنّ يهمّش تماماً الموقع المشار إليه تقليدياً على أنّه «جبل الهيكل» في القدس، التي كان الرومان قد دمّروها في سياق «حروب اليهود»، وبنوا مدينة بديلة في مكانها تدعى «ايليا كابيتولينا». 
وقبل صعود نجم الأمويين، كانت القدس مسرحاً لهذه الحرب الأهلية المشرقية الكبرى التي دارت في سياق المواجهة الحربية الشاملة بين الفرس الساسانيين وبين الروم 602-628.
القدس التي أهملها البيزنطيون، مع جوستنيانوس، تحوّلت إلى أبرز عناوين الحرب الدينية في ذلك الوقت، وكانت بين مسيحيات مختلفة قبل كل شيء آخر، ذلك أنّ المسيحية النسطورية كانت في طريقها إلى أن تتحول إلى ديانة البلاط الساساني، وكانت زوجة الشاهنشاه خوسرو الثاني نفسها، شيرين، مسيحية نسطورية. مع هذا، استعان القائد الساساني شاهربراز، النسطوري هو أيضاً، بيهود طبرية لإحتلال القدس عام 614، وقام نوع من الحكم الإحيائي اليهودي عليها، بقيادة نحميا بن هوشيل، لثلاث سنوات، قبل أن يقرّر الفرس أنفسهم بعثرة هذه التجربة عام 617، وتسليم القدس تماماً للنساطرة، والتخلص من نحميا، الذي كان يعتبر بين أتباعه بمثابة المخلّص، و»المشيحا بن يوسف». 
وحين تمكّن الروم من الساسانيين في خاتمة هذه الحرب الكبرى، وخرّبوا عاصمتهم على دجلة، المدائن (تقريباً بغداد حالياً)، استعادوا بيت المقدس، وأعادوا إليها ذخائر المسيح، ومنع اليهود من الدخول إلى المدينة، واستمرّت هذه الحال لسنوات معدودات، ذلك أنّه، وبخلاف المتداول من نماذج لـ»العهدة العمرية» فقد تمكّن اليهود من إعادة الإقامة في القدس، وفي محاذاة للحرم القدسي، بل ظلّ بإمكانهم مشاركة المسلمين في الصلاة ضمن هذا الحرم، طيلة الفترة الأموية الأولى، إلى أن منع ذلك الخليفة عمر بن عبد العزيز عام 720، فاستعاضوا عن ذلك بالأسوار الخارجية للحرم، وخصوصاً الحائط الغربي، و»كنيس المغارة». 
لم تكن الحال كذلك في بدايات العصر الأموي، يوم كان الإسلام المبكر لم يقطع تماماً بعد مع الديانتين الإبراهيميتين الأخريين، بل يطرح نفسه كتجديد يشملهما. حرص معاوية الذي أحاط نفسه بمستشارين مسيحيين أن لا يسمع للمسيحيين حين كانوا يستعدونه على اليهود، أو لليهود حين كانوا يستعدونه على المسيحيين. 
الأمر سيتبدّل مع فشل الحملة الأموية الأولى لفتح القسطنطينية. أدّى فشلها للإنكفاء، والإصرار مع ذلك على التوريث ليزيد، رغم عدم تحقق الانجاز الذي على اساسه كان يفترض التوريث: تتويجه في بيزنطية. بعد عامين من فشل هذه الحملة، حصل التوريث، من دون شرطه السابق (صيرورة السلالة الاموية سيدة على الامبراطورية الرومانية، التي نسميها بيزنطية). أدى حصوله بهذا الشكل الى تراجع الحكم الاموي، وانكفائه الى بلاد الشام، وصعود خلافة عبد الله ابن الزبير في المدينة، وسيطرة الزبيريين على معظم شبه الجزيرة العربية وأقسام من العراق وفارس، وحتى مصر، وكان كيانهم هذا الأوّل في سكّ قطع نقدية عليها ذكر اسم الرسول. 
تهاوى السفيانيون في هذه المعمعة، وصعد المروانيون، المنفيون في الاساس من الحجاز الى الشام بسبب السيطرة الزبيرية. بخلاف الخطاب المزدوج دينياً للسفيانيين، قاد المروانيون الصراع مع الزبيريين على انه صراع على التركة المحمدية. سكوا هم ايضا المسكوكات التي عليها اسم محمد. لكنهم، في زمن لم تكن فيه الطريق الى مكة سالكة اخذوا يعظمون من شأن القدس، ويبنون مسجد قبة الصخرة، وينظمون الحج «المؤقت» اليها، بل ان المساجد التي بنيت في فترة عبد الملك بن مروان كانت وجهتها الى القدس وليس الى مكة، على ما كشفه الحفر الاركيولوجي، وفقا لما تذكرنا به فرنسواز ميشو في كتابها المرجعي عن «بدايات الإسلام». ومن القطع النقدية في زمن عبد الملك، واحدة عليها نقش «محمد رسول الله» مع رسم يفترض أنه للخليفة من جانب، ونقش عليه اسمي «ايليا» (الإسم الروماني للقدس، ايليا كابيتولينا، الذي اعتمده العرب لفترة)، وعلى يمينه اسم الولاية: فلسطين.
مع المروانيين صار الصراع دينيا مع الروم، وليس صراعا على مركز الامبراطورية كما كانت الحال مع معاوية. وهكذا، حين عادت العرب لحصار القسطنطينية عام 717، في زمن سليمان بن عبد الملك (الذي اختار هو أيضاً القدس لمبايعته)، وبجيش يقوده مسلمة بن عبد الملك، كانت الانتظارات في هذه المعركة دينية واخروية بامتياز، وآمن الروم بان ايقونة العذراء مريم هي التي أنقذتهم. 
المسكوت عنه اليوم، إلى حد كبير، أنّه بعد سقوط خلافة بني أميّة في دمشق، تراجعت مكانة القدس في المخيال الإسلاميّ، بل تعامل العباسيّون معها بريبة وتشكيك من أن يكون وراءها «نوستالجيا أموية»، حالها في ذلك كحال دمشق. مع العباسيين، تطوّرت المؤسسة الفقهية الرسمية على قاعدة متحفظة ومحترزة تجاه الإهتمام التي استمرت بيت المقدس تحظى به في الإسلام الشعبي ولدى الصوفية، من خلال التقليد السرديّ المعروف بإسم «فضائل القدس» و»فضائل أهل الشام»، ويقوم في الأساس على عدد كبير من الأحاديث المروية عن النبي عن أهمية القدس ودمشق، وهي أحاديث كان يجري التعامل معها في كثير من الأحيان من جانب المؤسسة الفقهية الرسمية على أنّها من «الإسرائيليات».
التبدّل حدث مع غزوات الفرنجة، وليس مباشرة. بل بعد أقل من قرن بقليل على احتلالهم لها، يوم حظي استرجاع بيت المقدس بهالة دينية خلاصية، من داخل الإسلام السنّي، المقترن بالتصوّف بشكل واثق هذه المرة، من خلال نور الدين زنكي. فقط مع نور الدين استعادت القدس مكانتها الإرتكازية في الوعي الديني، التي كانت لها في العصر الأمويّ، والذي لعب العبّاسيون دوراً كبيراً في مواجهته.
ليس صحيحاً اليوم أننا في غنى عن إعادة السؤال عن تجديد المغزى الديني – الحضاريّ للقدس في المخيال العربي الإسلاميّ المعاصر. فالمقاربة «الوضعية – الناسوتية» لمسألتها تقوم على المكابرة إلى حد كبير، ومشكلتها توازي مشكلة اختزال كل شيء في البعد الديني. لكن المفارقة اليوم، أنّه في لحظة يقرّر فيها دونالد ترامب استفزاز مشاعر العرب والمسلمين إلى أبعد حد، في موضوع القدس، تنقسم المقاربات العربية، بين تلك المكتفية بالحيز الناسوتي «العلماني» للمسألة، أو المستثمرة في التوليفة «الإسلامية – المسيحية» (اثنان ضد ثالث)، وبين تلك المتمحورة حول معجزة الإسراء، في غفلة عن قدس معاوية وعبد الملك، وإلى حد ما عن قدس نور الدين زنكي.. يقابل ذلك إزدهار «مذهبي» للمرويات المهدوية التي نجدها في «كتاب الفتن» لنعيم بن حماد المروزي، عن «خروج المهدي من مكة إلى بيت المقدس»، وحول تحديد القدس بأنها المكان الذي سيتقاتل فيه المهدي والسفياني، «يؤتى بالسفياني أسيراً فيأمر به فيذبح على باب الرجة، ثم تباع نساؤهم على درج دمشق».
* وسام سعادة - لبنان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق