بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 يونيو 2015

«أهل الصحافة» لغوستاف فريتاغ: الفساد والجنرال المتقاعد

لسبب قد لا يكون من السهل إدراكه اليوم، بالنسبة إلى من يقرأ مسرحية «أهل الصحافة» للكاتب الألماني غوستاف فريتاغ، أو يشاهدها على خشبة المسرح، اعتُبرت هذه المسرحية أفضل عمل كُتب للخشبة في ألمانيا طوال القرن التاسع عشر، فيما نظر إليها البعض على أنها واحدة من أفضل المسرحيات الأوروبية في ذلك الحين. لكن اليوم إذ نقرأ هذه المسرحية أو نشاهدها، ستبدو لنا أقرب إلى العادية ويبدو موضوعها مألوفاً من النوع الذي تكرر في أعمال كثيرة. بل إن الأخلاقية التي تهيمن عليها، يمكن أن نعثر على ما يفوقها عمقاً في عدد كبير من مسرحيات تشيكوف وهنريك إبسن. غير أننا قبل أن نطلق حكماً صارماً في هذا المجال، أفليس علينا أن نتذكر أن مسرحية «أهل الصحافة»، كُتبت وقُدّمت للمرة الأولى في سنة 1854، أي نحو نصف قرن قبل ظهور أعمال تشيكوف وإبسن الاجتماعية؟ أي في زمن كانت الأعمال الفنية التي تدنو من السياسة وعلاقتها بالمجتمع، لا تزال شيئاً جديداً مثيراً للاستغراب؟ فكيف إذا أضفنا إلى السياسة والمجتمع ما سمي منذ ذلك الحين، السلطة الرابعة أي الصحافة التي أتت المسرحية لترسم خطوطاً أساسية حول علاقتها بالسياسة وديموقراطية الانتخابات والتنافس الحر على أصوات المقترعين؟ ترى حين نتحدث عن هذا كله ألا نبدو وكأنا نتحدث عن القرن العشرين، لا عن أواسط قرن كانت الجمهوريات الديموقراطية بالكاد بدأت تظهر فيها؟
> الحقيقة أن هذا النوع من الأسئلة، كان من شأنه أن يكفي وحده لتحديد أهمية مسرحية «أهل الصحافة». ومع هذا يمكننا ببساطة أن نضيف عنصراً آخر، ونعني به عنصر الجودة الفنية. إذ ما لا شك فيه أن مسرحية غوستاف فريتاغ هذه تعتبر مميزة، ليس فقط بالنسبة إلى ما كان رائجاً من مسرحيات ألمانية وأوروبية في ذلك الحين، بل حتى في سياق عمل فريتاغ نفسه، هو الذي أمضى حياته يكتب المسرحيات والقصص محققاً، في زمنه وفي المجالين، شهرة كبيرة وشعبية لا بأس بهما، بين الجمهور العادي وفي أوساط نخبة المثقفين. ونحن نقول هذا مع إدراكنا أن هذا الكاتب يكاد يكون شبه منسي اليوم...
> ومع هذا كان فريتاغ في زمنه يعتبر مجدداً، ليس فقط على صعيد الموضوع، بل كذلك، على صعيد الشكل الفني واللغة المسرحية. وما مسرحيته «أهل الصحافة» سوى برهان على هذا، حيث إن الكاتب صاغها بعد أن كان أمضى زمناً طويلاً، وكتب نصوصاً تجريبية عدة، توصل من خلالها إلى إدراك معضلة أساسية تتعلق بالزمن المسرحي في علاقته بالزمن الحقيقي (وهو أمر اشتغلت عليه النظريات السينمائية كثيراً لاحقاً)، ومن هنا كان اشتغاله على تسريع وتيرة الربط بين المشاهد والفصول، معلناً أن الوصول إلى إيجاد الوتيرة المثلى يتطلب تعاوناً حقيقياً وعميقاً بين الكاتب (والمخرج بالتالي) والممثلين وجمهور المتلقين أيضاً. وهو طبّق هذه الأفكار بخاصة في «أهل الصحافة» التي كان أهم ما يميزها أن الكاتب عرف كيف يرسم فيها، وببساطة شديدة، أجواء العمل الصحافي والعمل السياسي. ويقيناً أن ما ساعده بقوة على هذا، معرفته الوثيقة بالوسطين معاً، هو الذي كان خلال العقود السابقة خاض السياسة والصحافة معاً في لايبزغ حيث كان يعيش.
> تدور أحداث المسرحية في الزمن المعاصر لكتابتها، وفي بلدة ريفية تعيش حمى الانتخابات البلدية. صحيح أنها كانت بلدة صغيرة، لكنها كانت - في الوقت نفسه - ذات أهمية سياسية واستراتيجية، ومن هنا كان لانتخاباتها البلدية طابع سياسي واضح في وقت كان فيه الحكم العام للبلاد يميل نحو نوع من اللامركزية المواتية لتعزيز السياسة في النشاط البلدي. ومن هنا تبدو لنا، منذ البداية، أهمية تلك الانتخابات التي يتجابه فيها، بين من يتجابهون، ضابط متقاعد، ترك نفسه شبه دمية في يد سياسيين ذوي أهداف ملتبسة. الضابط المتقاعد لم يتمكن لحماسته من إدراك مرامي السياسيين الذين كان من الواضح أنهم يريدون استغلال مكانته وماضيه إلى أقصى الدرجات، فرضي بأن يترشح عنهم للانتخابات، ما وضعه مباشرة على تنافس مع البروفسور أولدندورف، الذي سرعان ما يتبين لنا أنه مرتبط بما يشبه الخطوبة مع ابنة الضابط. صحيح أن مظهر المنافسة هو بين هذين النسيبين، ولكن حقيقة الأمر سرعان ما تكشف لنا أن المعركة الحقيقية ليست هنا، بل هي تدور بين مجموعة من الصحافيين العاملين في صحيفة «يونيون» ويتحلقون سياسياً من حول زعامة البروفسور اولدندورف، وبين مجموعة أخرى من الصحافيين يعملون في صحيفة «كوريولان» جعلوا من الضابط المتقاعد ممثلاً لهم، وبالتالي «زعيماً» صورياً لحركتهم.
> خلال الفصلين الأولين من المسرحية المؤلفة من أربعة فصول، سيخيل إلينا أن الصراع سيحتدم، لكن فألنا سيخيب بدءاً من الفصل الثالث حين تدخل على الخط سيدة وارثة ثرية هدفها أن تجعل الانتخابات تجرى من دون تنافس يؤدي إلى أي معركة حقيقية... وبالفعل تنتهي الأمور على خير، إذ تتمكن السيدة من تحقيق غايتها مجرية مصالحة عامة، حتى وإن كانت المنافسة الانتخابية نفسها تسفر عن فوز البروفسور، صهر المستقبل بالنسبة إلى الضابط، على هذا الأخير.
> من الواضح هنا أن هذه النهاية أتت متماشية مع فكر كان بدأ يطغى على ذهنية الكاتب فريتاغ الذي كان (بعدما أعلن ابتعاده عن العمل السياسي المباشر الذي كان يخوضه في الماضي في صف القوى التقدمية)، كان أضحى منادياً بأن أفضل ما يحدث في المجتمعات الطبقية هو أن تتم المصالحة فيها بين الطبقات بدلاً من ترك الأمور تتحول إلى صراعات بين تلك الطبقات - وهي الفكرة نفسها التي سيحاول كتّاب ومفكرون قريبون من النازية الترويج لها خلال العقود التالية، والتي وصلت إلى ذروتها في القرن العشرين في فيلم «ميتروبوليس» لفريتز لانغ، الذي أبدى النازيون ما إن وصلوا إلى السلطة في ألمانيا رضاهم عنه. وكانت هذه الفكرة آتية - على التضاد مع النظريات الاشتراكية لا سيما تلك التي كان يعبّر عنها ماركس وإنغلز في ذلك الحين، والتي نادت بالصراع الطبقي - آتية من فكرة قومية ترى أن الصراع يجب أن يكون بين الأمة والأجنبي، ما يعني تآلف الأمة كلها بكل طبقاتها ضد ذلك الأجنبي المأخوذ هو الآخر كتلة واحدة. ولعل هذا البعد في مسرحية غوستاف فريتاغ، هو الذي أمّن لها كل ذلك القدر من النجاح، في زمن كانت تسود فيه الدعوات لقيام أمة - دولة ألمانية يدعمها كل أبنائها ماحين الخلافات في ما بينهم. غير أن هذا كله لم يكن العنصر الأساس في «أهل الصحافة»... حيث، وكما أشرنا، حققت المسرحية نجاحاً كبيراً واستثنائياً بفضل دينامية كتابتها. فالسياق المتتالي للأحداث حمل يومها دينامية مدهشة، جعلت المتفرج يتابع الأحداث والمواقف دون استراحة. فإذا أضفنا إلى هذا أن فريتاغ رسم شخصياتها رسماً واقعياً، بل يكاد يكون طبيعياً فوتوغرافياً، انطلاقاً من كونه استعار تلك الشخصيات من واقع يعرفه جيداً لأنه عايشه طويلاً... يمكننا أن ندرك المزيد عن تعلق الجمهور بمسرحية امتلأت بالابتكارات التي رأى فيها الناس مرآة حقيقية لواقع يعيشونه ويتندرون به (من ذلك مشهد الصحافي بولز، الذي يتمكن ذات لحظة وأمام أعين مؤيديه وخصومه من إخفاء صندوق اقتراع بكامله، من دون أن يتاح لأحد أن يسائله عن ذلك الغش).
> في المحصلة، بدت «أهل الصحافة» ألمانية وابنة زمنها... لكنها بدت أيضاً وكأنها تفضح «حقيقة» و «زيف» الديموقراطية في كل مكان وزمان. وكما قلنا، كان غوستاف فريتاغ (1816 - 1895) قادراً على هذا، لأنه، في شخصه وتاريخه، جمع الأبعاد الثلاثة التي تهيمن على هذا العمل (السياسة، الصحافة والكتابة). وفريتاغ ولد في كروتزبورغ بسيليزيا، ثم درس الفيلولوجيا في برلين وبرسلاو التي استقر فيها منذ عام 1839 مدرّساً للغة الألمانية وآدابها. لكنه في الوقت نفسه هوى المسرح وبدأ يكتب نصوصاً له، بالتزامن مع كتابته ونشره قصصاً قصيرة ومقالات سياسية، ناهيك بكتابته الشعر بين الحين والآخر. ومن أبرز مسرحيات فريتاغ إضافة إلى «أهل الصحافة»، «عن الفن والورد» و «غراف فالدمار» و «في برسلاو».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق