بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 9 يونيو 2015

◘ روائيات إيرانيات ... في المواجهة

رصدت صحيفة نيويورك تايمز قبل بضعة أعوام في تقرير لها من طهران صعود ظاهرة الكتابة النسائية وطغيانها على مشهد النشر في إيران، وأحصت نحو 370 كاتبة برزن في العقد الماضي، وكدن يزاحمن الكتّاب لا سيما في حقل الرواية. وبدا تزايدهن لافتاً جداً، فعددهن ازداد ثلاثة عشر ضعفاً خلال هذا العقد. في كتابها الصادر بالفرنسية عن دار لارماتان في باريس وعنوانه «الكلمات والتحديات» تتناول الناقدة الإيرانية
الفرنكوفونية ليلى فولادفند الرهان الذي تخوضه بجرأة روائيات إيرانيات في ظل الحكم الديني المتشدد ويواجهن من خلاله، الرقابة الرسمية القاسية التي رحن يلتففن حولها ليظهرن أن المسألة النسائية هي شرط بارز من شروط تحرر المجتمع الإيراني من ربقة الملالي، وتوجهه نحو الديموقراطية الحقيقية. وسعت هؤلاء الكاتبات بجسارة إلى إسقاط كل أوهام حقبة ما بعد الثورة الخمينية، داعيات إلى إحقاق الحرية العامة والشخصية وإلى نشر ثقافة التسامح والاختلاف والانفتاح على الآخر... وفي الروايات النسوية التي غالباً ما تميل إلى الواقعية الشديدة تبرز قضايا ملحة كالهوية النسائية، الذات الشخصية، حياة الجماعة، القمع، الهيمنة الذكورية، الرقابة الشاملة...

ولئن كان الأدب النسائي الإيراني يحتل في الداخل مساحة مهمة من المشهد الأدبي عموماً، فلا استغراب أن يبرز في الخارج أدب نسائي إيراني في لغات أجنبية كالانكليزية والفرنسية. وما يزيد من حال الاستغراب اتساع فسحة هذا الأدب النسائي وتزايد أسماء الكاتبات وتوالي أعمالهن. هذه ظاهرة لم يتمكن حتى مثقفو النظام الخميني من تجاهلها لا سيما بعد الرواج العالمي الذي حصدته مقابل الحملات الداخلية المغرضة التي تواجهها. بدت رواية آذار نفيسي «ان تقرأ لوليتا في طهران» التي صدرت بالانكليزية عام 2003 صدمة قاسية توجّه إلى الثقافة الإيرانية الرسمية، الأصولية والمحافظة. فضحت هذه الرواية أسراراً كثيرة في حياة الكاتبات ومعاناتهن الثقافية شبه اليومية، سواء في الجامعات أم في حلقات القراءة الجماعية التي تتم خفية، أم في مسلكهن الخاضع للرقابة الشاملة التي كانت تنتهي إلى ملاحقتهن واضطهادهن. افتتحت هذه الرواية موجة من الأدب الإيراني النسائي الانغلوفوني والفرنكوفوني لم يكن معهوداً كثيراً في العالم وفتحت الباب أمام تجارب مهمة أعقبتها.
خلال عام صدرت في باريس أربع روايات لأربع كاتبات إيرانيات اخترن اللغة الفرنسية أداة تعبير هرباً من الحصار الذي يهيمن على الأدب الإيراني في الداخل. والروايات هذه تنم عن تجارب مهمة في حقل السرد الروائي ذي النزعة الواقعية. «ازادي» لسيدة باكرافان (دار بلفون- باريس) رواية غاية في الجرأة والعمق، تفضح مساوئ النظام القمعي الذي يسعى إلى تجريد الأجيال الجديدة من حقوقها الشخصية، ويأسرها في خانة أيديولوجيته الأصولية. بطلة الرواية «رها» تواجه سلطات الأمن وحراس الأخلاق فتُسجن وتُضطهد وتُعزل وتخفق في تحقيق أحلامها التحررية وفي مواجهة السلطات المتكافئة ضدها. في حوار صحافي معها تنقل سيدة باكرافان عن سينمائي إيراني قوله: «كلنا مسجونون. هناك مَن هم في السجن والآخرون يجدون أنفسهم في سجن كبير هو البلاد». أما بطلتها «رها» فهي سجينة السجنين في آن: الزنزانة والوطن.
الراوية الأخرى الصادرة في باريس هي «أطفال جاكاراندا» (كتاب الجيب) للكاتبة الإيرانية المنفية، التي تحيا في ايطاليا وتكتب بالانكليزية، سحر دليجاني. هذه الكاتبة تتمتع بشهرة واسعة في العالم، أعمالها ترجمت إلى لغات عدة، وغالباً ما تمثل الأدب الإيراني المنفي في معارض الكتب والندوات العالمية. وهي كانت ولدت في أحد سجون طهران عام 1983 بُعيد الثورة الخمينية وعقب أسر عائلتها كلها بتهمة المعارضة. وفي الولايات المتحدة منفاها الاول أصدرت دليجاني روايتها «في ظل الشجرة البنفسجية» التي عرفت نجاحاً وترجمت إلى لغات شتى. أما روايتها الجديدة «أطفال جاكارندا» فتعري فيها الثورة وتكشف مصائر المعارضين للنظام الخميني لا سيما بعد الحرب الإيرانية -العراقية، وقد أعدُمت منهم أعداد هائلة ودفنوا جميعاً في مقابر جماعية حفرتها الجرافات. وبين هؤلاء المعارضين المقتولين مثقفون كثيرون وكبار اتهموا ظلماً بالكفر والتجديف. في هذه الأجواء تدور أحداث الرواية التي تجمع بين السرد الواقعي والتوثيق والتخييل.
الرواية الأخرى التي صدرت حديثاً في باريس هي أقرب إلى الرواية- التحقيق وعنوانها «أكتب لكم عن طهران»(دار غراسيه)، وصاحبتها دلفين مينوي كاتبة وصحافية، إيرانية الأب، فرنسية الأم، مراسلة جريدة الفيغارو الفرنسية من إيران ومصر ولبنان. رواية أو نص سردي يتضمن وقائع رهيبة ويوميات وتفاصيل عاشتها الكاتبة خلال السنوات العشر التي قضتها في إيران وكانت خير شاهد على ما جرى ويجري، علانية أم وراء الكواليس. وقد استخدمت عين الصحافية الموثقة والمدققة وبساطة الكتابة المشبعة بالوجدانية لاسيما أنها شاءت كتابها عبارة عن رسالة تكتبها إلى جدها لتروي له بحنين وألم، أين أصبحت طهران وكيف. وعن دار زولما الباريسية صدرت أيضاً رواية «أجراس طهران» للكاتبة الإيرانية الفرنكوفونية زويا بيرزاد.
وما يجدر ذكره في هذا الصدد أيضاً ترجمة رواية إيرانية بديعة إلى الفرنسية هذا العام وهي «حجاب طهران» (دار روبير لافون) للروائية الإيرانية برينوش صنيعي التي لم تتخل عن لغتها الأم. والرواية هذه نسائية في معنى أنها تسرد مأساة فتاة إيرانية يمكن اعتبارها نموذجاً حياً للمرأة الإيرانية التي تعيش حالاً من الخناق وليس الحصار فقط، عاطفياً وإنسانياً وثقافياً واجتماعياً.
لعل ظاهرة صعود الرواية الإيرانية النسائية المكتوبة بالانكليزية أو الفرنسية، تعبر عن حاجة الكاتبات (والكتاب أيضاً) إلى كسر حواجز الحصار والرقابة والخوف وإلى الخروج إلى هواء الحرية في الغرب. هذه الروايات لا تنتمي البتة إلى الحملات الدعائية التي تقوم بها حركات المعارضة الإيرانية في الخارج ولا إلى السياسات المعادية للنظام الخميني. إنها روايات ملؤها الحنين إلى الأرض الأم وإلى الذكريات والماضي الذي كان جميلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق