بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 يوليو 2015

سميراميدي» لروسيني: كيد النساء في بلاد الرافدين

إسمها لدى البعض سميراميس، لكنها لدى البعض الآخر سميراميدي، بل ثمة من سمّاها أيضا سميراما... لكنها في الأحوال كلها هي نفسها، ملكة بابل التي عاشت أحلى أيامها بين الجنائن المعلقة، لتشتهر لاحقاً بأنها صاحبة الحكايات التاريخية/ الأسطورية الشهيرة. لقد كانت تلك المرأة التي فتنت الفنانين والمبدعين فاستلهموا شخصيتها واستعادوا حكاياتها، حقيقية أو مخترعة أو حتى مستعارة من حكايات سيدات أخريات. وكان ذلك على الأقل منذ ان استتبت النزعة الإنسانية بعيد عصر النهضة الأوروبي. ذلك ان الفكر النهضوي، وجد في سيدة بابل الأسطورية هذه، نموذجاً للمرأة المشتهاة/ الملعونة، المرأة المفتقرة الى ما يتعارف عليه المجتمع على اعتباره «الأخلاق الحميدة» التي تليق بملكة مثلها، مع أن التاريخ نسب اليها في الوقت نفسه، أرفع الأعمال وأكثرها أهمية. ومن الواضح، في نهاية الأمر، أن هذا «التناقض الدرامي» في الشخصية المرتسمة في الأذهان لسميراميس، هو الذي جعل الرسامين والكتّاب المسرحيين والموسيقيين، يتعاملون معها كملهمة حقيقية، بدءاً من «أبي التاريخ» هيرودوتس - الذي تحدث عنها في نصوصه التاريخية المؤسسة التي يقال عادة أنها كتبت ميدانيا، أي عن معرفة عن قرب بخلفياتها التاريخية الحقيقية، وتحدث عنها خصوصاً باستفاضة تزيل الحدود بين الواقع التاريخي والخيال الشعبي أو الفني -، وصولاً الى فولتير وغيره. ولئن كان الكتّاب، منذ فجر التاريخ المدوّن قد اهتموا بسميراميس - مضفين عليها صفات لا تعد ولا تحصى وكذلك أسماء هي من التعدد بحيث يحار المرء في النهاية ايها هو اسمها الصحيح -، فإن عصر النهضة زاد من الاهتمام درجات ودرجات، ولا سيما منذ نهاية القرن السابع عشر حين ظهر للمرة الأولى نص مسرحي للكاتب الإنكليزي جورج إدوارد إيسكاف، عنوانه «سميراميس الكبرى» سرعان ما اقتبسه الذين أتوا بعده من كتّاب وفتنوا بالشخصية. غير أن الموسيقيين سيكونون، بعد ذلك على الفور أكثر اهتماماً بسميراميس من الكتّاب. ولا سيما الموسيقيون الايطاليون، اذ في امكان الباحث الآن أن يحصي ما لا يقل عن عشرين أوبرا تحمل في عنوانها اسم سميراميس (أو تنويعة أخرى عليه)... منها ثماني أوبرات بالعنوان نفسه «سميراميس» اضافة الى أعمال حملت عناوين مثل «سميراميس في عسقلان» و «سميراميس في الهند» و «سميراميس في القصر» و «سميراميس وقد تم التعرف عليها»... الى آخر ما هناك. ولئن كان مؤلفو أوبرات سميراميس على الدوام بعض أكبر الموسيقيين الايطاليين من فيفالدي الى سالييري ومن مونتفردي الى تشستي، فإن من المتعارف عليه عادة، في أوساط الباحثين كما في أوساط الهواة، أن العمل الأفضل والأجمل الذي كتب، موسيقياً، عن ملكة بابل، انما هو ذاك الذي ألفه جواكينو روسيني تحت عنوان «سميراميدي»، ليقدم، للمرة الأولى، على خشبة مسرح «لافينيتشي» في البندقية يوم 3 شباط (فبراير) 1823.
> كما يقتضي الأمر، تدور أحداث أوبرا «سميراميدي» لروسيني في مدينة بابل العراقية. وتبدأ الأحداث في معبد «بعل» إله المدينة، حيث يطالعنا أولاً رئيس الكهنة أوروى وهو يتوسل الآلهة لكي تثأر لموت الملك نينو. وفي الوقت نفسه نعرف أن أرملة الملك، الملكة سميراميدي يتعين عليها أن تقوم باختيار خلف لزوجها الكبير الراحل... وهي إذ تصل الى المعبد للقيام بتلك لمهمة تندلع في الجو زوبعة تطفئ نار المذبح وتحول بين الملكة وبين الكلام، في الوقت نفسه الذي تزرع الرعب في المكان كله وبين الحضور... وثمة بين هؤلاء الحضور أمراء ووجهاء وقادة يتطلع كل منهم الى أن يخلف نينو في الحكم إضافة الى ان التقاليد كانت تعطي الفائز فرصة ان يتزوج في الوقت نفسه من ابنة الأميرة الحسناء آزيما. وفي عداد هؤلاء، بل في مقدمهم قائد الجيش آرزاتشي والزعيم آشور وملك الهند ايدرينو. أما بالنسبة الى الأميرة الحسناء، فإننا سرعان ما سنعرف ان المفضل لديها، في شكل متكتم، انما هو آرزاتشي، الذي تهيم به - سراً أيضاً - الملكة سميراميدي... والحال ان هيام هذه الأخيرة بآرزاتشي قد بلغ من القوة ما أعماها عن كل حقيقة حين قال عراف ممفيس ان ثمة في أفق المدينة حقبة من السلام والأفراح والأعراس. فاعتقدت انها هي المقصودة بالنبوءة وأن آرزاتشي سيكون حقاً من نصيبها وأن اقترانها به قريب. وهكذا إذ يمكنها في نهاية الأمر وبعد انجلاء الزوبعة النارية، أن تتكلم وتعلن أمام ضريح زوجها ومليكها الراحل، أنها عثرت على عريس لآزيما في شخص ايدرينو ملك الهند، تعلن في الوقت نفسه انها هي ستقترن، حين تمكنها ظروف الحداد من ذلك، من قائد الجيش. ولكن هنا ما ان تتلفظ سميراميدي بهذه «القرارات» حتى تندلع زوبعة جديدة تقطع عليها كلامها، ثم فور ذلك ينفتح قبر نينو، ويخرج الملك من القبر ليعلن أن آرزاتشي لن يصبح ملكا إلا بعدما يقوم بتضحية معينة، فوق القبر نفسه.
> ولاحقاً في تلك الليلة نفسها، في جناح من أجنحة القصر حين تكون سميراميدي منهمكة في الحديث مع آشور، عن جريمة قتل الملك نينو، سيتبين لنا أنهما ارتكباها متآمرين معاً... فيما يكون الكاهن اوروى في حديث مع آرزاتشي بالقرب من قبر الملك الراحل في المعبد. وهنا خلال هذا الحديث يكشف الكاهن للقائد الشاب عن سر يتعلق به - أي بآرزاتشي - لا يعلمه أحد غيره: وفحوى السر هو أن آرزاتشي انما هو في الحقيقة نينيا، ابن الملك نينو من سميراميدي، الذي كان الكل يعتقد انه مات طفلاً لكنه في حقيقة الأمر لم يمت. ويتابع الكاهن كشف الأسرار في تلك الليلة المدهشة، فيسرّ الى القائد أيضا بحقيقة جريمة قتل الملك التي ارتكبها آشور مع سميراميدي... وعلى الفور إذ يجابه آرزاتشي (أو نينيا) أمه بكل هذه الحقائق التي كشف الستار عنها أخيراً، يجد نفسه - حتى وان اعترفت الأم بكل شيء - غير قادر على رفع يده عليها لقتلها، كما كان قد طلب منه الكاهن اوروى: انه غير قادر على قتل أمه. غير أنه إذا كان قد عجز عن القيام بما دعاه أوروى «واجبه تجاه ذكرى أبيه» بوعي منه، فإنه سينفذ الثأر من دون وعي، إذ لاحقاً، وتحت جنح الظلام يحدث أن يقتل سميراميدي معتقدا أنها آشور... وهو إذ يدرك حقيقة ما فعل وان ضحيته كانت أمه وليس آشور، يستبد به هلع شديد ويحاول أن يقتل نفسه عقاباً على ما فعل، لكن الكاهن اوروى يكون هناك ليمنعه من الانتحار، فيما تندفع جموع الشعب محيية بطلها الجديد معلنة إياه ملكاً على البلاد، في الوقت الذي تقوم قوات الجيش باعتقال المتآمر المجرم آشور لكي ينال ما يستحق من جزاء.
> عندما قدمت أوبرا «سميراميدي» لروسيني للمرة الأولى لم تحقق ذلك النجاح الذي كان متوقعا لها، بل انها بالأحرى حصدت من الاخفاق ما دفع جواكينو روسيني مؤلفها الى مبارحة البندقية غاضباً وتوجه الى فيينا حيث أقام بعض الوقت والتقى بيتهوفن. وروسيني بعد ذلك توجه ليعيش في باريس، من دون أن يفتر غضبه على ايطاليا و»جمهورها الجاحد». وفي باريس عُيّن مديراً لـ»مسرح الايطاليين» ليصبح بعد ذلك «موسيقي الملك» و»المفتش العام للغناء في فرنسا». وهو، إذ لحن «سميراميدي» في العام 1823، كان في الحادية والثلاثين من عمره، وكانت لا تزال أمامه سنوات طويلة يعيشها ويؤلف خلالها بقية أعماله الكبرى، بل يشهد خلالها أيضا عودة الاهتمام «بسميراميدي» لتنال حظوة كبيرة في فرنسا، ولا سيما بعد موت روسيني، العام 1868 في باريس. وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر صارت «سميراميدي» تعتبر من أهم أعمال روسيني الى جانب «الايطالية في الجزائر» و «ويليام تل» و «حلاق اشبيلية» و «اليزابيث ملكة انكلترا» وغيرها من أعمال جعلت هذا الموسيقي الإيطالي/الفرنسي، يعتبر ولكن قبل ظهور فردي، واحداً من أكبر مؤلفي الأعمال الأوبرالية في ايطاليا القرن التاسع عشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق