بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 يوليو 2015

«الوجود والزمان» لمارتن هايدغر: بعيداً من صخب السجالات

حين توفي الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عام 1976، لم يكن يخطر في بال أحد - أو على الأقل في بال جمهور قرائه الذي لم يكن كبيراً بالطبع خارج دوائر الاهتمامات الفلسفية، أن رئاسته للجامعة الألمانية (جامعة فرايبورغ) عام 1933 ستستخدم سلاحاً ضده من قبل كثر من أعدائه في يوم من الأيام، ولا سيما اعتباراً من أواخر سنوات السبعين حين راحت الكتب والدراسات تنتشر متهمة إياه بالتواطؤ مع النازية بل حتى متهمة فلسفته بأنها فلسفة نازية لا أكثر ولا أقل!! والحال أن تلك الهجومات والاكتشافات «الفضائحية» لم تأخذ في حسبانها أن الرجل وبعد توليه ذلك المنصب بعام واحد عاد واستقال منه، وتحديداً بسبب اختلافه الجذري مع السياسات الثقافية التي كانت السلطات النازية تتبعها. في مواجهة تلك المعركة التي خيضت ضد هايدغر، نهض كثر من الفلاسفة والمفكرين الغربيين ومن أصحاب الأسماء الكبرى في العالم الجامعي الأوروبي والأميركي في شكل عام ليدافعوا عن هايدغر مؤكدين، في أسوأ الأحوال، أن علاقته مع النازيين، على رغم أنها كانت خطيئة من مفكر كبير، لا تغتفر، إنما كانت قبل أن تتكشف النازية على نطاق واسع، عن أيديولوجية دموية قاتلة... ولقد كان في وسع المدافعين عن هايدغر أن يستندوا في دفاعهم إلى واحد من أكبر الفلاسفة الإنسانيين في القرن العشرين كارل ياسبرز، كما إلى كتابات حنة آرندت الفيلسوفة الألمانية المقيمة والعاملة في ذلك الحين في الولايات المتحدة والتي كان يمكن أن تكون من كبار مهاجمي هايدغر لو كان نازياً بالفعل انطلاقاً من يهوديتها، دون أن يغيب عن بالنا هنا أن المفكرين اليهود الأوروبيين كانوا هم من أشرس مهاجمي هايدغر.
> مهما يكن من أمر، لا بد أن نتوقف هنا عند واحد من أكبر الفلاسفة الألمان في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو يورغان هابرماس وريث مدرسة فرانكفورت التي كانت من أشرس المتصدين للنازية. فبالنسبة إلى هابرماس، لا يمكن النظر إلى تلك الحملة على هايدغر إلا باعتبارها حادثة عارضة. «ففلسفة الرجل أكبر من الحملات»، و «حضوره في فلسفة القرن العشرين دعامة أساسية لفكر هذا القرن»، وهو أمر وقفت لتوافقه عليه حنة آرندت التي لم تخف يوماً إعجابها بهايدغر، بعدما كانت، كما تقول الحكاية التي باتت مؤكدة على مرّ السنوات وفي الكتابات العديدة التي تناولت الموضوع، عشيقته لفترة من الزمن.
> على أية حال، وخارج نطاق تلك «المعركة» التي سرعان ما باتت «زوبعة في فنجان» يقول مؤرخو الفلسفة أن مهمة هايدغر الأساسية إنما كانت إكمال المشروع الوجودي الذي وضعه هوسرل، وذلك عبر استخدامه لفينومينولوجية هذا الأخير في مجال محاولته الإجابة عن السؤال الأساسي الذي شغل باله طوال عمره: ما هو الوجود؟ ويعتبر كتاب هايدغر الأساسي «الوجود والزمان» المحاولة الكبرى التي قام بها هذا الفيلسوف للإجابة عن السؤال، حيث نراه يحدد علاقة الوجود بالإنسان، انطلاقاً من الإنسان نفسه باعتبار الإنسان هو الموجود، هنا والآن، وهذا عبر تساؤلات ملأت الكتاب، الصادر عام 1927 ضمن المجلد الثامن من «حوليات الفلسفة والبحث الفينومينولوجي» التي كانت تنشر تحت إشراف هوسرل، أستاذ هايدغر الأكبر. ومنذ ذلك الحين، وكما يقول مترجم الكتاب إلى العربية أخيراً، فتحي المسكيني، ما فتئ الكتاب يتحول إلى مصدر إلهام و/ أو إلى خصم أساسي لأجيال من الفلاسفة والمفكرين، من سارتر إلى دريدا، ومن ادورنو إلى يورغان هابرماس. ويضيف المسكيني هنا أن تساؤلات هايدغر وبحوثه عن زمانية الكائن في العالم بعامة وماهية العقل الأنساني كما هي في هذا الكتاب، وتاريخ الحقيقة التي يستند إليها، وهشاشة تصوراتنا عن الإنسان وأزمة حداثة التنوير والتباس جوهر الحقيقة النابع من تصور خطير وغامض للعلاقة بالكائن وانسحاب آداب الثقافه من أفق الإنسانية الحالية، والخطر المحدق ببيئة العالم، هي اليوم أقوى ما تمتلكه الفلسفة المعاصرة من أدوات تفكير في مشكلاتها ومستقبلها... غير أن ثمة كثراً لا يشاطرون المترجم العربي رأيه هذا ومنهم محررو «الموسوعة الفلسفية المختصرة» هذا التحديد الذي سيعود المفكر ليتراجع عنه بعد ذلك، وبعد أن كان قد انتقد الفكر الغربي كله، من أفلاطون إلى نيتشه، متهماً إياه بأنه قد غيب عن ناظره التمييز الأساسي بين الوجود والموجود.
> في «الوجود والزمان» يدرس هايدغر، وفق «الموسوعة الفلسفية المختصرة» – المترجمة في مصر تحت إشراف الدكتور زكي نجيب محمود - الوجود الإنساني «باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصر دائماً – وحتى عندئذ – على أن اهتمامه لم يكن انثروبولوجياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطل منها على الوجود». ومع أن هذا التفسير الذاتي قد يبدو صحيحاً. إلا أنه – ودائماً وفق «الموسوعة الفلسفية المختصرة»، من أبعد الأشياء عن الوضوح أن تفهم ظواهر مثل الهمّ والضمير والذنب والخوف والموت والعدم – تلك الظواهر التي يناقشها هايدغر في «الوجود والزمان» – فهماً غير إنساني. ويضيف محرر مادة «هايدغر» في «الموسوعة»: «وينتظر المرء عبثاً طوال قراءته هذا الكتاب أن يجد ما يلقي ضوءاً كافياً على هذه النقطة؛ وحين ينتهي الكتاب ذو العنوان الفرعي «النصف الأول» يتوقع المرء حلاً لهذه المشكلة في «النصف الثاني»، لكن هذا الجزء لم يظهر إطلاقاً. مهما يكن فإن تأثير هايدغر الهائل يقوم على شرح أعماله المبكرة، الأعمال نفسها التي ينكرها في «الوجود والزمان»، بيد أن من العسير أن يكون لهذا الكتاب معنى بدون تلك الأعمال». وسواء فهمنا ملاحظات هذا المفكر في «الوجود والزمان» فهماً نفسياً أو بشرياً، فإنها عرضة للارتياب الشديد في دقتها، أما ما جعل لهذا العمل ذلك التأثير رغم هذا كله، فمن المحتمل أن يكون مزيجاً من أربعة عوامل تلخصها «الموسوعة المختصرة» على الشكل التالي: إن هايدغر قد تعرض لظواهر تكاد تكون ذات أهمية إنسانية شاملة، وكان الاهتمام بتلك الظواهر كبيراً بعد الحرب (الأولى)؛ ثم إنه عرف كيف يناقش تلك الظواهر بصرامة ظاهرية، وبمصطلح تفصيلي أراح ضمائر الأكاديميين، وأخيراً يعد هايدغر أستاذاً في إثارة النفوس ثم في الإبقاء على شعور الترقب (عند القارئ)...
> في مرحلة تالية عاد هايدغر ثانية إلى التراث الفكري الغربي ليعدّل من نظرته بعض الشيء على هدى قراءته لكانط وهيراقليطس والمقارنة بينهما، واكتشف أن الوجود هو الذي يؤسس الإنسان. وهذا التراجع كان هو الذي دفع جان بول سارتر إلى اقتباس هايدغر ونقده ومحاولة استكمال أطروحاته، لكنه كان في الوقت نفسه ما دفع روجيه غارودي إلى اعتبار هايدغر «التعبير الأكثر وضوحاً على ارتباك العالم خلال فترة ما بين الحربين، حيث كانت حياة الإنسان تتبدى من دون منظور مليئة بالفوضى الضاربة أطنابها، حيث نرى هايدغر ينظر إلى ما كان موقفاً لأمة معينة ولطبقة معينة من هذه الأمة في لحظة متأزمة، على أنه هو الشرط الإنساني والعلامة الفارقة المأسوية لكل وجود».
> لقد فجّرت فلسفة هايدغر الكثير من السجالات طوال القرن العشرين، بل إن الكثير من التطور الفكري الذي عرفه زماننا يدين لهايدغر سلباً أو إيجاباً. فهذا الفيلسوف الذي ولد في بادن عام 1889، عرف عبر كتبه وأهمها «الوجود والزمن» و «ما هي الميتافيزيقيا؟» (1929) و «دروب لا توصل إلى أي مكان» (1950) و «مبدأ العقل» (1957) و «نيتشه» (1961)، كيف يحرك سواكن الفكر الفلسفي، وكيف يبدع للقرن العشرين سجالاً فكرياً، كان بالنسبة إلى هذا القرن شبيهاً بما كانه فكر كانط وهيغل طوال القرنين الفائتين، وإن كان هابرماس، الذي دافع عنه بشدة إزاء مهاجميه لم يفته أن ينتقده قائلاً: «الحال أن ما يستند إليه هايدغر في مواجهة الأزمة، والمفهوم الذي يعارض به الميتافيزيقيا، ليس هو النقد بل الأسطورة». وهذا الكلام يتخذ دلالة سلبية بالطبع حين يجيء على لسان أحد آخر ورثة مدرسة فرانكفورت، التي كان فكر هايدغر، على أي حال، أحد روافدها الأساسية.
ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق