بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 26 يوليو 2015

◘ حبر وملح (عنفُ اللغة أيضاً)

ثمة عنفٌ غير مسبوق تعيشه أوطاننا المنكوبة بالويلات والمحن، وثمة توحّش لا نعرف ما إذا كان قد بلغ مداه الأقصى أم لا يزال هناك مزيد من المفاجآت المرعبة، فالأعين والأبصار والنفوس بدأت تعتاد على مرأى الجثث المحروقة والرؤوس المقطوعة والأشلاء المتناثرة، كأنها مشهد طبيعي من مشاهد يومياتنا المعطوبة. ولئن كانت بعض وسائل الإعلام، وهي نادرة جداً، تحفظ حرمة الموت وكرامة الموتى بامتناعها عن عرض مشاهد جثث المتحاربين القتلى والضحايا الأبرياء، فإن غالبيتها لا تزال تمعن في مشاركة المجرمين جرائمهم، من خلال استهتارها بكرامة الضحايا وحرمة جثامينهم، عبر مسارعتها الى بثّ صور جثثهم المنخورة بالرصاص أو السكاكين، من دون أدنى مراعاة لمشاعر ذويهم الذين قد يفاجَأون بنبأ رحيلهم المروّع عبر هذه الشاشة أو تلك.
وما تمتنع عن بثّه قنوات التلفزة، تتكفل به مواقع إلكترونية تتكاثر كالأرانب. هنا حدِّث ولا حرج، لا قيمة لأي شيء، ولا احترام لمهنية أو موضوعية أو مصداقية، الأولوية دائماً لسبق صحافي مهما كان هذا السبق مُسيئاً أو مُبتذَلاً. والمؤسف، أن عنف الصورة يقابله أو يماثله ويرافقه عنف الكلمة. أيُّ متابع لصفحات التواصل الاجتماعي سيقع على آلاف المواقع والأسماء المستعارة والوهمية، المتخصّصة بالشتم والقَدْح والذم وبثّ سموم التحريض على الشقاق والفتن، كأن ما فينا لا يكفينا حتى ينبري مَن يَصبُّ زيتاً على نار متأججة أصلاً، حطبها ملايين الأبرياء في "بلاد العُرب أوطاني".
كلمات مثل: فطائس وجرذان وجيف وسواها، نجد أنها تتكرر كثيراً في وصف كلِّ فريق قتلى خصمه، ما يُعيدنا الى بدائية حيوانية خالصة، مع الانتباه الى أن حيوانات كثيرة لا تُقدم على افتراس أبناء جنسها، على نقيض الإنسان الذي يفترس كل شيء، بما في ذلك (وربما أولاً) أبناء جنسه. أيعقل مثلاً، أن يُقتل مئات الآلاف وتدمَّر البيوت والأحياء الآمنة على رؤوس قاطنيها، وتُقطع الأعناق وتُسحل الجثث وتُسبى النساء وتُباع الجواري في أسواق النخاسة، على مرأى عالم "مُتَحضّر" متكلّس المشاعر متبلِّد الأحاسيس، لا هم له سوى نسبة الأرباح في بورصة المصالح الدولية، ثم ندَّعي أننا في القرن الحادي والعشرين؟
اعتناق العنف مذهباً لا يقتصر على المتحاربين في ساحات الوغى أو على القتلة والمجرمين، لو قرأنا ما يُكتَب أسفل كل خبر صحافي أو مقالة من تعليقات، لوقعنا على منسوبٍ مرتفعٍ جداً من العنف والرغبة في الإلغاء والإقصاء، كأن مَن لم تتيسر له بندقية أو سكين للتعبير عن العنف الكامن فيه وعن غرائزه وعصبياته المُستنفَرة، سارع الى الـ "كيبورد" ليَبثَّ من خلال الأحرف والكلمات شحنات من العنف الضاري في قوالب من السباب والشتائم المقذعة، ويكيل التهم الباطلة بحقِّ كلِّ مَن يخالفه الرأي، حتى تظنّ أنه لو استطاع الى غير ذلك سبيلاً لكان أكثر عنفاً من السفّاحين والذبّاحين أنفسهم.
كما أسلفنا، عنفُ الخطاب الغرائزي لا يقتصر على الأحياء بل يطاول الموتى أيضاً، يكفي أن نتابع مواقع التواصل الاجتماعي لدى رحيل أي فنان لندرك أي درْكٍ قد بلغنا، إذ تتنوع التعليقات العنفية من عدم جواز الرحمة عليه الى جهنم وبئس المصير، وما بينهما من عجائب وغرائب "الإيمان" القاتل (وهذه لنا إليها عودة)، وأخطر ما في خطاب العنف المستشري عدم اقتصاره على العوام، وانخراط قادة رأي وكتّاب وإعلاميين وصنّاع رأي عام من تلك الشريحة المسماة نخبة، في الترويج له والحضّ عليه، عِوَض مساهمة هؤلاء في الدعوة الى تغليب لغة العقل والحوار والتسامح، وقبول الآخر المختلف، والبحث عن مكامن ضوء وكوى خلاص مما نحن فيه من خراب وعيٍّ وعقل ومنطق، ما يهدّد بتفكيك مجتمعاتنا وتفتيت نسيجها الوطني، وتحويلنا حتى عقودٍ مقبلة مجرد مِللٍ ونِحلٍ متناحرة، وقبائل وشعوباً نتذابح عِوَض أن نتعارف، بما يعنيه التعارف هنا من تفاعل وتلاقح وتناغم واستيلاد معارف جديدة وقيم، تسعفنا في الطريق نحو تنمية حقيقية وعدالة اجتماعية وحرية تكفل حق الجميع بلا استثناء في العيش بكرامة وسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق