بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 1 نوفمبر 2015

◘ «كاشيما بارادايز» ليان لي ماسون: يوم كان النضالُ نضالاً

هل يمكن ان يلام أحد اليوم إن هو أبدى نوعاً من الحنين الى احتجاجات الأزمان الخالية، حين كان الناس بالفعل يتظاهرون من أجل قضايا عادلة يؤمنون بها؟ هل ثمة في طرح السؤال نفسه غمز يتساءل عما إذا كان هناك ما هو بريء في تظاهرات أيامنا هذه؟ ان كثراً مستعدون للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة بالنفي قائلين ان زمن التلفزة و «الخبر المباشر» حوَّل معظم التظاهرات والاحتجاجات الى نوع من «تلفزيون الواقع» والمتظاهرين الى «نجوم»، حيث ان جزءاً كبيراً من العمليات الاحتجاجية بات يوجد كي
يصوّر، من دون ان يسعى الى أي فعاليات أو تأثيرات أخرى. وفي هذا الإطار تحضر دائماً حكاية تلك التظاهرة التي كان يقوم بها أطفال الحجارة، في الانتفاضة الأولى في فلسطين، والتي اذ راحت كاميرا «فيزنيوز» تصورها، مقتربة من مجموعة من الفتية الفلسطينيين، وسط التحرك العنيف. يومها بدا المشهد على النحو التالي: الأطفال يرمون الحجارة في اتجاه غير محدّد. الكاميرا تقترب. واحد من الأطفال يتقاعس وقد تعبت يده. يلتفت زميل له ناحية الكاميرا المقتربة، متنبهاً الى وجودها ثم يلتفت بسرعة الى رفيقه ويقول له: «اضرب اضرب... ها هي الكاميرا تصورنا». طبعاً قد يكون من التعسف استخلاص استنتاجات سياسية من هذا المشهد (الذي رأيناه في فيلم «نشيد الحجارة» لميشال خليفي)، ولكن يمكن الانطلاق منه للتذكير بأزمان اخرى لم تكن فيها النضالات مجرد استعراضات تلفزيونية. ومن هذه الازمان يمكن ان نتوقف هنا عند سنوات الستين وبعض سنوات السبعين من القرن العشرين. فالحال ان من يعود الى الشرائط والصور التي ترصد تظاهرات تلك السنوات النضالية الحقيقية مهما كان موقفنا، اليوم، منها-، وسنوات السياسة الصاخبة التي كانت تؤمن حقاً أن حركة الشارع يمكن ان تغيّر العالم، يمكنه ان يرى مقدار الصدق والجدية على ملامح اصحاب الشأن، وكذلك ايمانهم بما يفعلون من دون ان يبالوا حقاً بما اذا كانت التلفزة تصورهم أو لا تصورهم، تماماً على عكس ما يحدث اليوم.
> والحقيقة ان هذا الواقع يوصلنا الى عمل فني سياسي يبدو منسياً بعض الشيء اليوم، لكنه في حينه كان واحداً من الأعمال الرائدة في مجال جعل الصورة المتحركة جزءاً من النضال، لا جعل النضال جزءاً من الصورة كما هو حادث اليوم. هذا العمل هو فيلم وثائقي عنوانه «كاشيما بارادايز» أو «جنة كاشيما» يوحي عنوانه بأنه فيلم ياباني، لكنه في الحقيقة فيلم حققه سينمائي فرنسي شراكة مع عالمة اجتماع، فرنسية بدورها، في اليابان. والفيلم منذ ان أُنجز وعُرض عند بداية سنوات السبعين من القرن الفائت، اعتُبر واحداً من أهم الأعمال السينمائية التسجيلية في زمنه، بل ان كثراً لم يجدوا مشقة في القول انه يبدو وكأنه من انجاز سيرغاي ايزنشتاين، شقيق لـ «اكتوبر» و «إضراب» وربما ايضاً لـ «الدارعة بوتمكين». هذا من الناحية الفنية، أما من الناحية السياسية فإن «كاشيما بارادايز» افتتح عالماً من الشرائط التي راحت تناضل من أجل البيئة ومن أجل التحريض ضد إفساد الانسان الطبيعة. ولعل أجمل ما في هذا الفيلم ان الناس الذين تحدث عنهم، وصوّر ثورتهم، كانوا بشراً حقيقيين، يدافعون عن قضية حقيقية تلامس عيشهم ونمط ذلك العيش. قضية لم يقرأوا عنها في الكتب او في شعارات الأحزاب، او في امجاد الماضي. بل جابهتهم في ديارهم. ولئن وصلت كاميرا الفرنسيين الى هناك، الى المنطقة النائية في اليابان حيث اندلع النضال، فإن الأمر كان صدفة، ناهيك بأن «ثوار كاشيما» لم يلتفتوا ابداً الى الكاميرا وهي تصوّرهم. لم يناضلوا من اجل الكاميرا.
> ومع هذا كله فإن حكاية «كاشيما بارادايز» كما بتنا نعرف اليوم، ولدت من قصة حب. قصة حب بين السينمائي الفرنسي المناضل، وعالمة الاجتماع. هو يان لي ماسون وهي بيني ديفارتي. يومها كانت بيني، حين تعرّف عليها يان قد سافرت الى اليابان لتحضِّر أطروحة دكتوراه حول «المجتمع الريفي والتصنيع المسرّع في بلد رأسمالي متقدم»، فما كان من يان إلا أن حمل معدات التصوير ولحق بها. وهو اذ تذكر الأمر لاحقاً قال: «كنا نريد ان نزاوج بين معلوماتنا ونوعي الفن اللذين نتقنهما». غير ان يان لم يكن حتى ذلك الحين سوى مصوّر، عمل في أفلام لوثائقيين كبار من امثال جوريس ايفانز، ويليام كلاين، وبيار كاست، ومن المعروف ان من يعمل مع هؤلاء كان يشعر ان لا شيء يصعب عليه، طالما ان الفكرة واضحة في رأسه. وهكذا، حين التقى يان وبيني بالحدث الذي هزهما هزاً، وجد الاثنان ان الكاميرا وآلات تسجيل الصوت يمكن ان تكون شاهدة على ما يحدث: من ناحية لإطلاع العالم كله على ذلك الحدث، ومن ناحية ثانية لتعليم الشبان الأوروبيين، وغيرهم، كيف ولماذا يكون النضال الحقيقي. وهكذا أمسك يان بالكاميرا، ووضعت بيني اقلامها جانباً لتحمل أجهزة تسجيل الصوت. وكانت النتيجة هذا الفيلم الذي قال عنه كريس ماركر، احد أكبر المناضلين من طريق السينما الوثائقية في تاريخ الفن السابع، انه «الفيلم الكامل». فعمّ تحدّث هذا الفيلم؟
> تحدّث، بكل بساطة وعفوية ومباشرة، عن محاولة تقوم بها شركات عملاقة، لتشييد مجمّع صناعي ضخم في منطقة ريفية رائعة الجمال تقع على بعد مئة كيلومتر من العاصمة اليابانية طوكيو. في ذلك الحين، ومن أجل توفير الأراضي لبناء المجمّع و «تنظيف» منطقة واسعة تحيط به، راحت الشركات متواطئة مع السلطات السياسية والمالية، تصادر أراضي الفلاحين، وبالقوة، إن لم يقبلوا بيعها. عدد كبير من هؤلاء الفلاحين رضوا بأن يبيعوا الأرض ويدمروا زراعاتهم ويغيروا كلياً نمط حياتهم اليومية التي تعود الى مئات السنين. ولكن كان ثمة في المقابل فلاحون كثر رفضوا هذا البيع وذلك التغيير على رغم كل المغريات. يومها، واذ عرف مئات من الطلاب المستقلين او المنتمين الى اليسار المتطرف، الناقمين على الأحزاب الرسمية، يسارية كانت او يمينية، معتبرينها متواطئة، توجهوا الى تلك المنطقة ليناضلوا فيها، عملياً، الى جانب الفلاحين، خصوصاً أن كثراً من أولئك الطلاب كانوا، أصلاً، من ابناء تلك المنطقة. وهكذا، وقفت كاميرا يان لي ماسون، في المكان المناسب، في اللحظة المناسبة، لتصور كل ما يحدث لا سيما جوهر ذلك الصراع الذي كان محوره التعايش المستحيل بين ممارسات عتيقة عريقة هي ممارسات الحياة اليومية للفلاحين في تلك المنطقة، وبين قانون الربح الذي كان بدأ هجومه الواسع الكاسح ليدمّر كل تلك الحياة. والمهم هنا أن الكاميرا، التي كانت طالعة لتوها من وهج «ايار 1968» الفرنسي ومن نضالاته اليسارية الحقيقية، لم تقف من ذلك الصراع على الحياد، بل بدت ملتزمة تماماً، تقف من دون لبس او غموض في صف الفلاحين الممانعين والطلاب المساندين لهم.
> حدث هذا كله في العام 1970. وفي العام 1972، عاد يان لي، ماسون الى فرنسا، حيث حصل على دعم مادي مكّنه من توليف فيلمه. وما إن أنجزه حتى عرض ليحقق نجاحاً كبيراً مدهشاً ومفاجئاً. وراحت الصالات والمدن تتلقفه فيما صفوف الانتظار تطول خارج الصالات مليئة بمتفرجين راحوا يحدثون بعضهم بعضاً عنه من دون هوادة. والأهم من هذا ان ما من عرض للفيلم في أي صالة من الصالات، كان يمر من دون ان يتلو العرض نقاش واسع. نقاش كان، كما روى مخرج الفيلم لاحقاً «يطاول، اولاً جمال الفيلم وأبعاده الفنية، ومن ثم معانيه السياسية والاجتماعية». لقد اتى الفيلم ليزاوج يومها بين الجمال والنضال، بعدما كان سائداً انهما لا يلتقيان، اذ كان يقال ان الجمال يجب ان يُضحى به على مذبح القضية... قال «كاشيما بارادايز»: ابداً... النضال من دون جمال الفن سيبقى ناقصاً». المهم ان مئات الألوف شاهدوا الفيلم الذي سرعان ما صار علامة... وراحت أفلام كثيرة لاحقة تحاكيه، بحيث أسّس، لتيار عاش طويلاً، ولا يزال، في مجال السينما الوثائقية.
* ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق