بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 يوليو 2016

المسجد األقصى في الخطاب الديني الصهيوني: من علمنة المقدس إلى استعادته

انطلقت الهبة الشعبية احلالية كهبة دفاع عن املسجد ألاقصى المبارك، ورغم أن السياق السياسي المتعلق بالصراع أو التسوية بين إسرائيل والفلسطينيني يحيط بهذه الهبة، إلا أن ما حدث في المسجد ألاقصى في تشرين األول 2015 كان الشرارة التي أطلقت هذه الهبة. صاغت إسرائيل روايتها بأن الهبة الفلسطينية احلالية انطلقت مدفوعة مباكينة دعائية وحتريضية ذات طابع ديني وليس لها عالقة بالنضال الوطني الفلسطيني. صحيح، تتفاوت النظرة ّ الفلسطينية للمسجد األقصى، بني الوطني ّ والديني، وأولوية كل مركب في دفعه لوقود الهبة الشعبية، وهل النضال للسيادة الوطنية يسبق النضال من أجل حرية العبادة، أم أن العبادة هي ّ شرط السيادة؟، هل املسجد األقصى هو رمز وطني ّ أم ديني، أم أن التناقض بينهما هو وهمي ومختلق؟. حول هذه األسئلة ميكن القول 1 المسجد األقصى في الخطاب الديني الصهيوني: من علمنة المقدس إلى استعادته إنه ال حرية عبادة بدون سيادة، وال سيادة وطنية فلسطينية حقيقية ّ في القدس بدون المسجد الاقصى، والوطني ّ والديني يلتقيان في القضية الفلسطينية شئنا أم أبينا، فالصراع الوطني له مركبات دينية باتت تظهر بكثافة أكبر بعد صعود التيار اإلسالمي. كان لا بد من هذا االستهالل للولوج إلى النقاش الديني الصهيوني حول املسجد األقصى، الذي يسمى في األدبيات القومية والدينية اليهودية، جبل الهيكل )هار هبايت(، وذلك لكي أزعم أن الفرق بني النقاش الفلسطيني وبني الصهيوني أوال ثم الصهيوني الديني ثانيا حول املسجد األقصى، هو أن احلركة الوطنية الفلسطينية لم تر هذا التوتر بني وطنية املسجد األقصى ودينيته، فالصراع عليه منذ العشرينات كان مقولبا في الصراع ّ ضد املشروع الصهيوني في فلسطني. بينما رافقت املشروع )*( أستاذ جامعي فلسطيني- أم الفحم. الصهيوني منذ بدايته وحتى اآلن ثالثة مسارات من التوتر في 68 عدد 60 في شباط 1996، أصدرت لجنة حاخامات مجلس المستوطنات، وأعضاؤها هم حاخامات المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، فتوى دينية تنص على الدخول للمسجد األقصى، ال بل توصي بذلك. وقد طالبت الفتوى كل حاخام ّ ه أتباعه بتعاليم الطهارة، أن يقوم بنفسه بدخول المسجد األقصى لكي يفق وكيف يمكن الدخول والصالة حسب تعاليم الشريعة اليهودية. ويشير عنباري إلى أن الخطوات العملية لهذه الفتوى جاءت في أعقاب االنتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت من المسجد األقصى، فبعد إغالق المسجد أمام اليهود لمدة ثالث سنوات )2003-2000(، ازدادت أعداد اليهود من أبناء المدارس الدينية الصهيونية الذين توافدوا إلى المسجد األقصى للزيارة والصالة الفردية الصامتة، وحسب معطيات الشرطة فقد دخل المسجد األقصى منذ تشرين الثاني 2003 وحتى تشرين األول 2004، ما يقارب 70 ألف يهودي. التعامل مع المسجد ألاقصى . األول: التوتر الشديد بني التيار الديني االرثوذكسي الذي أراد احلفاظ على نقاء املقدس الديني في وجه الدنس الصهيوني، وذلك من خالل االبتعاد عنه )أي المقدس( تعزيزا لقداسته، وبني الصهيوني الذي أراد االقتراب من املقدس الديني من خالل علمنته. وهذا التوتر البالغ درجة الصراع ال يزال حاضرا حتى اآلن بني التيارين فيما يتعلق باملسجد األقصى . أما املسار الثاني، فهو حالة التوتر بني التيار الصهيوني القومي الذي يريد احلفاظ على علمنة املقدس، وبني التيار الصهيوني الديني الذي يحاول حتريره من علمانيته واستعادته وإرجاعه إلى ّ موقعه املقدس، من خالل االقتراب منه كمقدس ديني نقي بعد نفي حالة العلمانية عنه، واالقتراب منه يهدف إلى االبتعاد عن املشروع الصهيوني السياسي بتحويل »هار هبايت« إلى مركز اخلالص الديني املسياني، بعد تآكل املنظومتني املسيانية والكولونيالية معا بعد اتفاق أوسلو والذي مت مبوجبه تسليم أجزاء من »أرض إسرائيل« إلى سلطة فلسطينية، أدت إلى تآكل املشروع السياسي الكولونيالي في السيطرة على أرض إسرائيل، كما أراد اليمني القومي، وتآكل املشروع املسياني الديني، الذي رأى في حرب 1967، مرحلة أخيرة ّ من اخلالص الرباني كما نظر لها التيار الديني الصهيوني، مثل غوش اميونيم. كانت استعادة املقدس وحتريره من العلمنة، تهدف إلى جتديد اخلطاب املسياني، وكان املسجد األقصى مركز هذا التجديد بعد أن كانت األرض تعبيرا عنه.فاألرض جتمع القومي ّ والديني، بينما ينحصر الديني في املقدس النقي، وإذا خذلت ّ األرض املشروع املسياني ألنها متت علمنتها، فإن املقدس النقي يأبى العلمنة أو قابل للتحرر منها. وهنا يظهر الفرق بني التيار ّ اليهودي االرثوذكسي وبني الصهيوني الديني، ففي حني أن األول رفض علمنة املقدس من خالل االبتعاد عنه، رفض الثاني علمنة املقدس من خالل االقتراب منه. ويتجلى املسار الثالث في التوتر الحاصل حول مركز املنظومة املسيانية داخل التيار املسياني الصهيوني الديني نفسه، ففي حني وضعت املسيانية الدينية الصهيونية بعد حرب 1967، األرض في مركز اخلالص النهائي لشعب إسرائيل )شعب إسرائيل مبفهومه ّ الديني وليس القومي(، وحولتها بذاتها إلى مقدس ديني، وحيدت »جبل الهيكل« من منظومتها املسيانية أو أجلته، نشأت مسيانية صهيونية دينية جديدة في عقد التسعينات، تعمل على وضع »جبل الهيكل« في مركز املنظومة املسيانية، واألرض حتولت إلى أطرافها، وساهم اتفاق أوسلو وما تبعه في تعزيز هذا التوجه. المسجد األقصى في الخطاب الصهيوني والديني في شباط 1996، أصدرت جلنة حاخامات مجلس املستوطنات، وأعضاؤها هم حاخامات املستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، فتوى دينية تنص على الدخول للمسجد األقصى، ال بل توصي بذلك. وقد طالبت الفتوى كل حاخام أن يقوم بنفسه بدخول الفلسطينيون في القدس: تصالح كامل مع املكان. 69 عدد 60 فمثال، لم يدفع هرتسل بأن تكون القدس عاصمة دولة اليهود، وإذا أصبحت كذلك فيجب فرض سيادة دولية على أماكنها المقدسة، أما بن غوريون فاعتقد، بداية، أن وجود الاماكن المقدسة تحت السيادة اليهودية سيعيق بناء مجتمع حداثي علماني كما تطمح الصهيونية السياسية ومؤسسوها العلمانيون. ّ املسجد األقصى لكي يفقه أتباعه بتعاليم الطهارة، وكيف ميكن 2 ويشير عنباري الدخول والصالة حسب تعاليم الشريعة اليهودية. إلى أن الخطوات العملية لهذه الفتوى جاءت في أعقاب االنتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت من املسجد األقصى، فبعد إغالق املسجد أمام اليهود لمدة ثالث سنوات )2003-2000(، ازدادت أعداد اليهود من أبناء املدارس الدينية الصهيونية الذين توافدوا إلى املسجد األقصى للزيارة والصالة الفردية الصامتة، وحسب معطيات الشرطة فقد دخل املسجد األقصى منذ تشرين الثاني 2003 وحتى تشرين 3 األول 2004، ما يقارب 70 ألف يهودي. ما الذي حدث عام 1996؟، وما الذي دفع حاخامات من الصهيونية الدينية على إصدار مثل هذه الفتوى، وذلك على الرغم من التحرمي واملنع الديني الصارم من دخول املسجد والصالة فيه، كما جتلى ذلك ليس في موقف التيار اليهودي االرثوذكسي فحسب، بل أيضا في التيار الصهيوني الديني. وال بد من اإلشارة في هذا السياق، أن بنيامني نتنياهو فتح نفقا حتت املسجد األقصى في العام نفسه، والذي أدى إلى اندالع انتفاضة النفق الفلسطينية، ومن الصعب اجلزم مبا لدينا من قرائن أن هنالك عالقة مباشرة بني فتوى احلاخامات وبني فتح النفق سوى العالقة الكرونولوجية بينهما، الفتوى سبقت فتح النفق، واألخير جاء بعد الفتوى. وفي العام نفسه بدأت احلركة االسالمية داخل اخلط األخضر مبشروعها »األقصى في خطر« عبر مهرجانها األول في تشرين األول 1996، وانطالقة هذا املشروع في خطابها وعملها السياسي. قبل اإلجابة عن سؤال ما حدث، ال بد من عرض تاريخي لتطور مواقف الصهيونية العلمانية والدينية من قضية املسجد األقصى . أدرك قادة الصهيونية األوائل ومفكروها خطورة املخزون املسياني الذي يرافق صيرورة نفي املنفى وإقامة وطن قومي لليهود في فلسطني، وحاولوا تغييبه )فكرة دولة في اوغندا لهرتسل(، أو حتييده )الصهيونية الروحية آلحاد هعام(، ومحاولة احتوائه بخالص قومي سياسي )الصهيونية السياسية(. تشير األبحاث التي رصدت مواقف الصهيونية في بداية طريقها، أن عالقة الصهيونية بالقدس كانت مزدوجة، فمن جهة شددوا على رمزية القدس كقوة جاذبة للمشروع الصهيوني في مخاطبة يهود العالم، ومن جهة ثانية كانوا متخوفني من املخزون املسياني املدمر الذي حتمله األماكن املقدسة على املشروع القومي والسياسي. فمثال، لم يدفع هرتسل بأن تكون القدس عاصمة دولة اليهود، وإذا أصبحت كذلك فيجب فرض سيادة دولية على أماكنها املقدسة، أما بن غوريون فاعتقد، بداية، أن وجود األماكن املقدسة حتت السيادة اليهودية سيعيق بناء مجتمع حداثي علماني كما تطمح الصهيونية السياسية ومؤسسوها العلمانيون. حملت الصهيونية التنقيحية مواقف أخرى بالنسبة للمقدس الديني، فقد رأت أهمية تعزيز املقدس في اخلطاب الصهيوني، مبا يتجاوز علمنته التقليدية مع احلفاظ على قيودها. ظهر ذلك في خطاب »حتالف البلطجية« )بريت هبيريونيم(، وحركة االتسيل الذين اعتادوا على إطالق البوق الديني اليهودي )شوفار( بجانب احلائط الغربي )حائط املبكى( عشية يوم الغفران. ويشير برسيكو إلى أن كلمة »قلب« املستعملة في اخلطاب السياسي احلالي، كلما مت احلديث عن القدس بأنها »قلب الشعب اليهودي«، جاءت من وصف الشاعر اليهودي تسيبي غرينبرغ من »حتالف البلطجية« عندما دخل املسجد األقصى عام 1924 وقال بعدها: »القدس هي قلب العالم، وليس هنالك عالم باملفهوم االلهي، ال مير عن طريق قلب إسرائيل، 4 إلى جانب »حتالف البلطجية«، ظهر حتالف جديد في هار هبايت«. سمي »حتالف احلشمونائيم« برئاسة احلاخام موشيه سيغال، الذي طالب أعضاؤه الحقا مبحو املسجد األقصى وإقامة الهيكل، وسيغال 5 من أعضاء الليحي سابقا. كتب يائيرشتيرن قائد منظمة »الليحي« اليهودية، في عام 1941 ُ ، دستورا للمنظمة سمي »مبادئ النهضة«، شملت 18 مبدءا فيها خلط بني الديني والقومي بشكل مثير، حيث جاء في البند األول حتت عنوان »الشعب«، أن »شعب إسرائيل هو شعب مميز، ُ صاحب الدين املميز، مشرع أخالق االنبياء...«، وفي البند الرابع حتت عنوان الهدف جاء »1- خالص األرض، قيام اململكة، 3- إحياء األمة: لن يكون قيام للمملكة بدون خالص األرض، ولن يكون إحياء 70 عدد 60 لألمة بدون قيام اململكة«... وفي البند األخير رقم 18، »بناء البيت الثالث كرمز للخالص الكامل«. إذن، يعتبر شتيرن أن بناء الهيكل 6 يشكل املدماك األخير في اخلالص اليهودي. يشير الباحث اإلسرائيلي عفري ايليني إلى أن تأييد الوجود اليهودي في املسجد األقصى لم يكن موقفا هامشيا في حركات االتسيل وحيروت، بل أساس مركزي في ايديولوجيتها. وكان خطاب التواجد اليهودي في املسجد األقصى مركبا أساسيا في خطاب حيروت في العقدين األوليني بعد قيام الدولة. وامتزج غضب حيروت ضد بن غوريون بني الغضب على قرار األخير إقصاءها عن املشهد السياسي وإغراق سفينة »التلينا«، وبني »تخليه« عن املسجد األقصى في حرب 1948. فقد جاء في صحيفة »حيروت« التابعة للحزب، أن بن غوريون »وجه املدافع القليلة التي كانت بحوزتنا ليس من أجل قصف أسوار البلدة القدمية من أجل احتالل جبل الهيكل، بل باجتاه 7 ويشير ايليني أنه بعد احتالل سفينة كان على متنها وطنيون يهود«. املسجد األقصى كان أعضاء حيروت أول من دخل املسجد للصالة فيه، وأهمهم كان غرشون سلومون الذي أسس الحقا منظمة »أمناء جبل الهيكل«، فهو كان عضوا في حيروت كطالب جامعي، وعشية انتخابات 1977 طلب سلومون من بيغن أن يشمل البرنامج السياسي للحزب تغيير األمر الواقع، وأيده في الفكرة غالبية أعضاء احلركة، إال أن بيغن عارض إدراجها في البرنامج االنتخابي ألسباب انتخابية، 8 وبعد فوزه في االنتخابات تراجع عن وعده بتغيير الوضع القائم. تاريخيا، متاهى التيار املركزي في مدرسة الصهيونية الدينية مع املدرسة اليهودية االرثوذكسية في قضية املسجد األقصى، وقد عارض األب الروحي للصهيونية الدينية في فلسطني في النصف األول من القرن العشرين، احلاخام ابراهام يتسحاق هكوهن كوك )1935-1865(، )الحقا: كوك األب(، دخول اليهود للصالة في املسجد األقصى وبناء الهيكل. إال أن مراجعة معمقة لنشاطه ومواقفه توضح أن موقفه هذا، رغم أنه حتول إلى املوقف الرسمي، كان جزء منه موقفا دينيا متت علمنته، بسبب موازين القوى لصالح التيار الصهيوني السياسي، وبسبب قناعة كوك األب أن علمنة الدين تصب أحيانا لصاحله. ففي تصور كوك األب فإن إقامة الهيكل اعتبر »هدفا 9 واعتبر كوك األب أن السياق التاريخي احلالي، صهيونيا واضحا«. املتمثل بهيمنة التوجهات الصهيونية العلمانية، هو سياق مؤقت، سيتغير لصالح املشروع الصهيوني الديني.10 جتسدت مركزية املسجد األقصى في اخلالص الكامل )الحظ أنه املصطلح نفسه الذي استعمله شتيرن في مبادئه(، في نشاط كوك األب أيضا، ففي عام 1921 اقام مدرسة »توراة الكهنة« )توراة كوهنيم(، الهادفة إلى تدريس الفقه وطقوس العمل في الهيكل. انطلقت هذه املدرسة من اعتبار أن »مسيرة اإلحياء القومي للحركة الصهيونية، الذي كان مركزها القطيعة عن الدين، من املتوقع لها أن تعود سريعا إلى املقدس، إلكمال اخلالص النهائي وبناء الهيكل«.11 تنبهت القيادة الصهيونية لنشاط وخطاب احلاخام كوك، ووجهت له نقدا شديدا على إقامة مدرسة تختص بالهيكل، وسرعان ما وضح احلاخام كوك موقفه بأنه يربط بني بناء الهيكل وبني اعتراف األغيار بحق اليهود ّ على جبل الهيكل، وشدد أن نشاطه سيبقى خارج املسجد األقصى وليس من داخله. وظهر املوقف الرسمي للحاخام كوك األب خالل شهادته في جلنة »شو« عام 1929، والتي فحصت يشير الباحث اإلسرائيلي عفري ايليني إلى أن تأييد الوجود اليهودي في المسجد األقصى لم يكن موقفا هامشيا في حركات االتسيل وحيروت، بل أساس مركزي في ايديولوجيتها. وكان خطاب التواجد اليهودي في المسجد األقصى مركبا أساسيا في خطاب حيروت في العقدين األوليين بعد قيام الدولة. وامتزج غضب حيروت ضد بن غوريون بين الغضب على قرار األخير إقصاءها عن المشهد السياسي وإغراق سفينة »التلينا«، وبين »تخليه« عن المسجد األقصى في حرب 1948. قيادات إسرائيلية في باحة األقصى بعد احتالل عام 1967. 71 عدد 60 األحداث الدامية في املسجد األقصى في العام نفسه، في شهادته أمام اللجنة اقترب كوك األب من موقف التيار االرثوذكسي الديني، في أهمية االبتعاد عن املقدس )جبل الهيكل(، اخلالص- املتمثل ببناء الهيكل- هو رباني، واليهودي هو في حالة انتظار لهذا اخلالص. وفي كلمات كوك األب نفسه يظهر ذلك، عندما قال في اللجنة: »نحن نؤمن بأن الرب سيبعث املسيح، ويعترف به كل العالم الذي سيمتلئ ببركاته، لكن أوامر التوراة بأنه حتى مجيء يوم البعث، فإننا غير مخولني حتى للدخول إلى ساحة الهيكل، أنا متعود في األعياد اليهودية، بأن أبعث لهم )أي لليهود( حتذيرا، بأن ال يدخلوا هذا املكان املقدس، ألننا ال نستحق ذلك حتى قدوم يوم اخلالص، وحينها سينفذ األمر بواسطة الرب فقط، بدون أن نقوم بأي فعل لتسريع النهاية«.12 وقد أصدر احلاخام كوك األب بيانا حتذيريا للعامة باللغتني العبرية واالنكليزية يحذر فيه من الدخول إلى املسجد األقصى ، جاء فيه »إخوتنا األعزاء القادمني من قريب ومن بعيد لزيارة املدينة املقدسة- القدس، حافظوا على احلظر الصارم من الدخول ملكان الهيكل وجبل الهيكل« )أنظر املنشور 13(. ّ يتضح من حتليل مواقف احلاخام كوك األب، تكيفه الديني من املشروع القومي العلماني، وليس العكس، كما يحدث اآلن في املشهد الصهيوني-الديني اإلسرائيلي. وعلى مسار أبيه، استمر ابنه، احلاخام تسفي يهودا هكوهن كوك )الحقا: كوك االبن( وهو األب الروحي للصهيونية الدينية بعد عام 1967، في حمل مواقف أبيه املناهضة لدخول اليهود إلى املسجد األقصى ، وجتلت هذه املواقف في مرحلة أصعب من الناحية املسيانية من فترة أبيه. ففي فترة كوب األب، لم يكن قلب »أرض إسرائيل« النابض باملقدس حتت السيادة اليهودية، وعلى رأسها القدس، اخلليل، بينما عاش كوك االبن في فترة السيطرة اليهودية على قلب »أرض إسرائيل«، ولكنه أبقى احلظر الديني على دخول املسجد األقصى مكمال ميراث أبيه ومنسجما مع االرثوذكسية اليهودية ومتفهما للحاجة الصهيونية البراغماتية. بدل الهيكل واملسجد األقصى، ركز كوك األبن على األرض، وعوض املقدس املتمثل بجبل الهيكل ببناء مقدس جديد متمثل باحتالل األرض عبر االستيطان، وحتولت أفكاره اخلالصية التي كانت »أرض إسرائيل« في مركزها إلى حركة سياسية- غوش اميونيم.14 لم تظهر في أدبيات مدرسة »مركاز هراب« في القدس الذي كان كوك االبن حاخامها أي ذكر للمسجد األقصى في موضوع اخلالص. فقد حتولت املدرسة الدينية »مركاز هراب« إلى أهم مرجعية دينية بالنسبة للمستوطنني األوائل في الضفة الغربية، وبعد حرب 1967، أقامت الكثير من املؤسسات الدينية، واندمج خريجوها في سلك التعليم اإلسرائيلي، وجتلت مساهمتها الفكرية في تركيزها املكثف على مركزية األرض، فقد ركز الفكر الديني-اخلالصي الذي نشرته املدرسة على ثالثة أسس، أوال: التشديد على األرض من بني الثالوث املقدس )الشعب، التوراة واألرض(، ومنح كل قطعة أرض معنى مقدسا. ثانيا: التشديد على معنى النجاح كمؤشر تاريخي على صحة التصور الصهيوني-الديني. ثالثا: التشديد على دور الشباب الصهيوني املتدين من أجل السيطرة على املشروع العلماني وتوجيه املشروع السياسي، مبا متثله الدولة، في عملية اخلالص النهائية.15 اختلف احلاخام كوك االبن، عن أبيه احلاخام كوك األب في درجة قدسية األرض ومفهوم اخلالص. يوضح احلاخام يوفال شارلو الفرق الديني بينهما، والذي أثر على مواقف املستوطنني وحركة االستيطان. يشير شارلو أن التجديد الذي فعله كوك األب كان في إعطاء معنى شامل للمقدس الديني. ففي حني انحصر هذا 72 عدد 60 املعنى عند اليهودية األرثوذكسية في تعليم التوراة وإقامة الشعائر الدينية، فإنه يشمل عند كوك األب مجاالت غير محدودة، فقد اعتبر أن كل فعل أنساني )تعليمي، اقتصادي، رياضي، سياسي وغيرها( تدخل في املجال املقدس، كما أنه اعتبر الصهيونية جزءا من املقدس، ليس لذاتها بل ألنها حتقق إرادة الرب بدون وعي قيادتها، واعتبر أن العمل الذي يقوم به الصهيونيون العلمانيون فيه شيء من املقدس ألنهم ينفذون إرادة الرب.16 لم يكتف كوك االبن مبعارضة دخول املسجد األقصى والصالة فيه، بل عارض احلفريات األثرية داخل املسجد األقصى، كما أنه خرج ضد احلاخام العسكري شولومو غورن، الذي حاول بعد احتالل املسجد ترسيم حدود جبل الهيكل، وحتديد املساحة التي ميكن لليهود الدخول اليها، فقد قال احلاخام كوك االبن في هذا السياق، »علينا أن منشي بخشية وخوف حول جبل الهيكل« وفي موقع آخر قال، »جبل الهيكل محاط بسور حوله، ليس لنا أن نتجاوزه، وليست لدينا حاجة بدراسته وبحثه«.17 ّ يعد موقف كوك االبن أكثر أهمية من موقف أبيه، وذلك لثالثة أسباب: أوال: السياق التاريخي الذي حتدث فيه أبوه كان فيه اخلالص مجرد ميتافيزيقيا، غير واقف على أرضية صلبة من السيطرة على األرض ومعدوم السيادة اليهودية، بينما السياق التاريخي الذي أصدر فيه كوك االبن موقفه كان فيه خطاب اخلالص واقفا على أرض وعلى سيادة مبفهوم االحتالل لألرض والتحكم بها. ثانيا: في سياق أبيه كان املسجد األقصى حتت سيطرة »األغيار« )فلسطينيون واجنليز(، بينما في سياقه كان املسجد األقصى حتت سيطرة الدولة اليهودية. ثالثا: في سياق أبيه كان املستوطنون األوائل من التيار الصهيوني العلماني، بينما كان املستوطنون األوائل، باألساس، في الضفة الغربية، أي فترة كوك األبن، من التيار الصهيوني الديني. صعود مسيانية »جبل الهيكل« في الخطاب الصهيوني الديني جاء احتالل املسجد األقصى عام 1967 ّ ، ليشكل بداية تغيير الصهيونية، فالصهيونية كحركة علمانية استطاعت علمنة الدين والسيطرة عليه رغم هيجانه فيها، كالبركان املليء باللهب واحلمم لكنه غير قادر على االنفجار، جاء احتالل القدس واملسجد األقصى وباقي املواقع الدينية في الضفة الغربية إلهابا لهذه احلمم. استطاعت الصهيونية العلمانية حتى عام 1967 التحكم بلهيبها الداخلي، بسبب ابتعادها عن هذه املواقع، وبذلك روضت التصورات املسيانية، التي علمنت ذاتها بذاتها في إطار الصهيونية الدينية التي اعتبرت أن اخلالص هو فعل بشري خاضع لقوانني التاريخ واجلغرافيا. مرت خمسة عقود على احتالل املقدسات، وميكن االدعاء أن الصهيونية ضعفت أمام قوة اجلذب املسيانية، وقد حذر باحث الصوفية اليهودية غرشوم شلوم من خطر العودة الفيزيائية إلى مكان الهيكل. وكما يشير باحث الفكر الديني اليهودي، تومر برسيكو، أن هاجس يشعياهو ليفوفيتش كان اخلطر احملدق بأخالقية املجتمع اإلسرائيلي من احتالل شعب، بينما كان يخشى غرشوم شلوم من شيء آخر، خطر دخول جبل الهيكل إلى السياسة اإلسرائيلية، وضعف الصهيونية في الوقوف أمام املقدس اجلديد وقوته املسيانية.18 وجاءت تخوفات شلوم في مكانها، فبعد االحتالل قال حاخام دولة إسرائيل )وهو في مكانة مفتي اجلمهورية في الدول العربية(، يتسحاق نيسيم، إنه ال يجوز االنسحاب، ليس فقط من األماكن الدينية اليهودية املقدسة، مثل هار هبايت )احلرم القدسي الشريف(، واجلدار الغربي )حائط البراق( بل »ال يوجد حق ألي شخص في إسرائيل، مبا في ذلك حكومة إسرائيل، أن تعيد حتى ذرة أرض واحدة داخل حدود أرض إسرائيل املوجودة حتت لم يكتف كوك االبن بمعارضة دخول المسجد األقصى والصالة فيه، بل عارض الحفريات األثرية داخل المسجد األقصى، كما أنه خرج ضد الحاخام العسكري شولومو غورن، الذي حاول بعد احتالل المسجد ترسيم حدود جبل الهيكل، وتحديد المساحة التي يمكن لليهود الدخول اليها، فقد قال الحاخام كوك االبن في هذا السياق، »علينا أن نمشي بخشية وخوف حول جبل الهيكل« وفي موقع آخر قال، »جبل الهيكل محاط بسور حوله، ليس لنا أن نتجاوزه، وليست لدينا حاجة بدراسته وبحثه«. 73 عدد 60 سيطرتنا«.19 باإلضافة إلى حاخام إسرائيل، فقد عبر حاخام اجليش شلومو غورن، أن االنتصار كان تعبيرا عن إرادة الرب، فبعد احلرب، جاب حاخام اجليش في األراضي احملتلة مخاطبا اجلنود أن دولة إسرائيل موجودة بقوة اإلرادة اإللهية التي ال ميكن االستئناف عليها، واجليش يحقق نبوءات آخر الزمان ألنبياء إسرائيل، وحاول غورن -دون جناح- في بداية االحتالل تنفيذ السيطرة اليهودية الفعلية على احلرم القدسي الشريف. ويعتبر غورن، الشخصية الدينية املركزية التي بدأت بإدخال املسجد األقصى في املنظومة املسيانية الدينية الصهيونية، رغم أنه كان يشغل منصبا رسميا في اجليش اإلسرائيلي. شكل )1( صورة مجسمة توضح شكل الهيكل على أنقاض املسجد األقصى بعد االحتالل اإلسرائيلي، حاولت جهات دينية - وعلى رأسها حاخام اجليش اإلسرائيلي، شلومو غورن- السيطرة الفعلية على املسجد األقصى، إذ رفع اجلنود اإلسرائيليون العلم اإلسرائيلي فوق قبة الصخرة املشرفة، إال أن موشيه ديان أمرهم بإنزال العلم. كما أصدر مجلس احلاخامات املركزي الرسمي بعد احلرب قرارا بعدم السماح لليهود بالصعود إلى املسجد األقصى، وسوغ موقفه مببررات دينية، مثل االدعاء بأنه يتخوف أن يخطئ اليهود في حتديد مكان الهيكل بدقة، وقد انسجم هذا املبرر الديني )الذي أخذ بالتآكل خالل عقود االحتالل( مع سياسة احلكومة التي دعت اليهود للصالة جنب احلائط الغربي للمسجد األقصى، املوسوم يهوديا حائط املبكى، وذلك خشية أن يؤدي صعود اليهود إلى احلرم القدسي إلى إشعال حرب دينية في املنطقة. إال أن أول ما فعله غورن كان ترسيم مكان »جبل الهيكل« بناء على دراساته التوراتية، وحدد أماكن الصالة فيها، واستعان بذلك بسالح الهندسة في اجليش اإلسرائيلي، وأفتى ببناء كنيس يهودي في أماكن موازية للمساحة التي حددها.20 وقد أمرت احلكومة حاخام اجليش شلومو غورن بالكف عن محاوالته السيطرة على احلرم القدسي الشريف. فقد كتب بن غوريون رسالة إلى ابا ايبان، وزير اخلارجية اإلسرائيلي، أن »احلاخام غورن يعتقد، على ما يبدو، أن الرب يختبئ في مسجد عمر«، وأكد أنه يستطيع الصالة جنب اجلدار الغربي، فقد خشي بن غوريون، الذي لم يكن في مكانة رسمية وقتئذ، بأن يؤدي الصعود إلى احلرم القدسي الشريف إلى تصعيد التحريض الديني على إسرائيل، وقد وافقه ايبان الرأي.21 شكل املسجد األقصى، موضوعا مركزيا في خطاب املستوطنني، ووفر احلاخامات اليهود املستوطنون الوقود األيديولوجي والثيولوجي لالستيطان واملستوطنني في األراضي الفلسطينية، وكانت تصريحاتهم وأوامرهم تسبق في أولويتها تشريعات احلكومة وأوامر اجليش لدى املستوطنني من أبناء الصهيونية الدينية. ومن هذه التصريحات مثال نذكر تصريح احلاخام شلومو افنير، احلاخام ّ ل بداية تغيير الصهيونية، جاء احتالل المسجد األقصى عام 1967، ليشك فالصهيونية كحركة علمانية استطاعت علمنة الدين والسيطرة عليه رغم هيجانه فيها، كالبركان المليء باللهب والحمم لكنه غير قادر على االنفجار، جاء احتالل القدس والمسجد األقصى وباقي المواقع الدينية في الضفة الغربية إلهابا لهذه الحمم. استطاعت الصهيونية العلمانية حتى عام 1967 التحكم بلهيبها الداخلي، بسبب ابتعادها عن هذه المواقع، وبذلك روضت التصورات المسيانية، التي علمنت ذاتها بذاتها في إطار الصهيونية الدينية التي اعتبرت أن الخالص هو فعل بشري خاضع لقوانين التاريخ والجغرافيا. مرت خمسة عقود على احتالل المقدسات، ويمكن االدعاء أن الصهيونية ضعفت أمام قوة الجذب المسيانية 74 عدد 60 السابق ملستوطنة »بيت ايل«، وحاليا حاخام عطيرت كوهنيم، وهي مستوطنة تابعة ملجموعة متطرفة تدعو إلى بناء الهيكل مكان املسجد األقصى، فقد طالب مبزيد من التوسع اإلقليمي يتعدى احلدود احلالية لألراضي احملتلة، قائال: » وحتى لو كان هناك سالم علينا أن نشعل حروب التحرير لغزو أجزاء أخرى من أرض إسرائيل« )قاصدا األردن(.22 يشير عنباري أنه منذ منتصف الثمانينات بدأت مساع حثيثة لطرح مسألة املسجد األقصى على أجندة اخلطاب االستيطاني، ومتثل ذلك في إقامة »معهد الهيكل« عام 1984، وحركة إقامة الهيكل عام 1987، وإطالق سراح يهودا عتصيون، عام 1989، الذي كان ناشطا في التنظيم اليهودي اإلرهابي، والذي قتل وحاول قتل مدنيني وسياسيني فلسطينيني. أدت هذه التغييرات إلى ضغط جماهيري وجه للمطالبة بالسماح لليهود بدخول املسجد األقصى. تشكل هذه املسألة حتديا دينيا-شرعيا وحتديا سياسيا، حيث لم يسمح الكثير من احلاخامات اليهود بدخول اليهود إلى املسجد األقصى ألسباب دينية، ووجه هذا الطلب باألساس إلى حاخامات الصهيونية الدينية ومستوطني حركة »غوش اميونيم«. في العام 1990، تأسست جلنة حاخامات املجلس االستيطاني، شكل المسجد األقصى، موضوعا مركزيا في خطاب المستوطنين، ووفر الحاخامات اليهود المستوطنون الوقود األيديولوجي والثيولوجي لالستيطان والمستوطنين في األراضي الفلسطينية، وكانت تصريحاتهم وأوامرهم تسبق في أولويتها تشريعات الحكومة وأوامر الجيش لدى المستوطنين من أبناء الصهيونية الدينية. ومن هذه التصريحات مثال نذكر تصريح الحاخام شلومو افنير، الحاخام السابق لمستوطنة »بيت ايل«، وحاليا حاخام عطيرت كوهنيم، وهي مستوطنة تابعة لمجموعة متطرفة تدعو إلى بناء الهيكل مكان المسجد األقصى، فقد طالب بمزيد من التوسع اإلقليمي يتعدى الحدود الحالية لألراضي المحتلة. االقصى حتت االحتالل: »السياسي« يصعد بركان الديني. 75 عدد 60 وكانت تهدف إلى إعطاء أجوبة دينية ودعم روحاني للمستوطنني الذي باتت حياتهم صعبة خالل االنتفاضة الفلسطينية األولى في األراضي الفلسطينية احملتلة عام 1967. نهجت اللجنة التي وقف عليها احلاخامات شلومو افينير، اليعازر فلدمان والياكيم لبنون، مواقف منسجمة مع أيديولوجية غوش اميونيم، وذهبوا إلى أهمية إبعاد نشاط احلاخامات عن السياسية. وقد توجهت احلركات العاملة في موضوع تغيير واقع املسجد األقصى إلى اللجنة بهدف استصدار موقف ديني يدعم دخول اليهود إلى املسجد األقصى. يعتقد عنباري، في حتليل رائع لديناميكية االهتمام باملسجد األقصى، أن ذلك جاء بالذات بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية على جزء من »أرض إسرائيل«، حيث أدى ذلك على صدمة مسيانية عند حاخامات املستوطنني، ألن إقامة السلطة كانت تعني وقف احلتمية اخلالصية التي نظروا لها منذ العام 1967. وكان رد حاخامات املستوطنني، وخصوصا حاخامات مجلس املستوطنات، هو وفرة في اخلطاب اخلالصي مقابل التراجع الواقعي لهذا اخلطاب، مبعنى أن تناقض الواقع مع النظرة اخلالصية لم يؤد إلى تقليل مستوى اخلطاب والتفكير اخلالصي، ّ بل صعده إلى مستوى آخر، ووجه نحو املسجد األقصى ، فبعد انسحاب إسرائيل من أريحا وقطاع غزة في املرحلة األولى من اتفاق أوسلو، واجه احلاخامات هذا الواقع الضد خالصي بطرق عديدة، منها، مطالبتهم تكثيف االستيطان في الضفة الغربية، إصدار فتاوى دينية تعارض إخالء أجزاء من »أرض إسرائيل«، وإخالء املستوطنات ومعسكرات اجليش، حيث جاءت هذه الفتوى من »احتاد احلاخامات من أجل شعب إسرائيل وأرض إسرائيل«. وفي عام 1995، طالب احلاخام شاؤول يسرائيلي، حاخام مدرسة »مركاز هراب« املعروفة، بوقف الدعاء والصالة لسالمة الدولة، حتى ال تتم مباركة وزرائها وقادتها ومستشاريها.23 وهكذا، بدأت مواقف نشيطي حركات إقامة الهيكل على أنقاض املسجد األقصى تسيطر على حاخامات املستوطنني، كما ظهرت مواقف دينية في صفوف املستوطنني تشير أن االنسحابات التي قامت بها حكومة إسرائيل في الضفة الغربية جاءت كعقاب رباني على ابتعاد اليهود عن املسجد األقصى الذي طالبت به فتاوى احلاخامات حتى اآلن. ففي تصريح ليسرائيل روزين، رئيس معهد »تسومت« وهو أحد املعاهد التي يهتم بصعود اليهود إلى املسجد األقصى وإقامة الهيكل، قال فيه »أن االنسحاب األول )االنسحاب من أريحا عام 1994( جاء بسبب غياب السيادة اإلسرائيلية الفعلية على »هار هبايت«، فغياب هذه السيادة أدى إلى خسارة السيطرة اإلسرائيلية على أريحا«. أما احلاخام دوفليئور، حاخام مستوطنة كريات أربع ومن القيادات الدينية البارزة للصهيونية الدينية واملستوطنني، فقد قال في السياق نفسه، »نحن الذين نؤمن باجلزاء والعقاب والعناية العليا، علينا أن نعلم أن أحد األسباب املركزية التي نتعذب بسببها، هي الالمباالة الكبيرة في صفوف أجزاء كبيرة من شعبنا اجتاه هار هبايت عموما وبناء الهيكل خصوصا«.24 ظهر إلى جانب املنظمات واحلاخامات الذين طالبوا بإقامة الهيكل على أنقاض املسجد األقصى، فريق من احلاخامات الذين دعوا إلى االلتزام بالقانون، وكان منهم احلاخام يهوشوع تسوكرمان، واحلاخام يوئيل بن نون، وتبعهما معظم املربني في املدارس الدينية القومية الذين تصدوا خلطة تفجير املسجد األقصى، وحذروا من عواقبها السلبية. وكان منهم من هاجم فكرة تسريع اخلالص، باعتبارها تدخال في املشيئة اإللهية، ومن بني هؤالء كان احلاخام ابينير مؤسس املدرسة الدينية »عطيرت كوهنيم« في القدس، يعتقد عنباري، في تحليل رائع لديناميكية االهتمام بالمسجد األقصى، أن ذلك جاء بالذات بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية على جزء من »أرض إسرائيل«، حيث أدى ذلك على صدمة مسيانية عند حاخامات المستوطنين، ألن إقامة السلطة كانت تعني وقف الحتمية الخالصية التي نظروا لها منذ العام 1967. وكان رد حاخامات المستوطنين، وخصوصا حاخامات مجلس المستوطنات، هو وفرة في الخطاب الخالصي مقابل التراجع الواقعي لهذا الخطاب، بمعنى أن تناقض الواقع مع النظرة الخالصية لم يؤد إلى تقليل مستوى الخطاب والتفكير ّ ده إلى مستوى آخر، ووجه نحو المسجد األقصى . الخالصي، بل صع 76 عدد 60 وكان ادعائه، هو التمييز بني قضية بناء الهيكل وبني املوقف من احتالل مناطق أو أجزاء أخرى من القدس، فهو من جهة يحذر من االنعكاسات السلبية على املساس باملسجد األقصى، لكنه من جهة أخرى يدعو إلى احتالل أجزاء من املدينة من خالل االستيطان والتهويد.25 ميثل احلاخامات شلومو افنير وتسفي طاو، استمرارا ملوقف احلاخام كوك االبن الذي يعارضون صالة اليهود في املسجد األقصى ويعتبرون أن احتالل األرض واستيطانها وبسط السيادة اليهودية عليها، أهم من صالة اليهود في املسجد، ويعتبرون أن مرحلة بناء الهيكل تتطلب أوال مجيء امللك، إقامة مملكة إسرائيل، ومن ثم بناء الهيكل. في مقابل هذا التيار الديني. حتول املركز الديني الصهيوني إلى تيار داعم للسيطرة على املسجد األقصى دينيا، وإكمال السيطرة السياسية بسيطرة دينية. فمثال، احلاخامات يتسحاق غينزبزرغ ويتسحاق شبيرا ويوسف فالي، أصدروا الكثير من الكتب حول بناء الهيكل )مثل: حراس الهيكل، في حق الدخول جلبل الهيكل واستعادة الهيكل وغيرها(، ويدفعون بأبناء التيار الديني باملشاركة في مسيرات حول املسجد األقصى وإطالق البوق الديني )شوفار(.26 ساهمت نشاطات املستوطنني وخطابهم نحو تهويد احلرم القدسي الشريف، وحثهم مطالب صعود اليهود إلى باحات املسجد األقصى، ومطالبة قسم آخر منهم ببناء الهيكل، إلى زيادة تأييد الشارع اليهودي لهذه املطالب، ففي استطالع للرأي حول مواقف اليهود )شملت العينة 523 شخصا فوق سن 18(، أجري في العام 2013، تبني أن 30% من اليهود يؤيدون بناء هيكل في احلرم القدسي الشريف، مقارنة مع 22% أيدوا ذلك في العام 2012. كما أيد 59% من اليهود فكرة فرض تقسيم احلرم القدسي الشريف بني اليهود والفلسطينيني كما هو احلال في احلرم اإلبراهيمي الشريف في اخلليل، ولم يظهر االستطالع فرقا بني املتدينني والعلمانيني في مسألة شغفهم للصعود إلى املسجد األقصى )68% من املتدينني و-60% من العلمانيني(.27 ويعتبر ذلك تعبيرا عن تغلغل مطالب مجتمع املستوطنني إلى املجتمع اإلسرائيلي. ويشير مناحيم كالين، وهو عضو إدارة جمعية عير عميم، التي تعمل لتحقيق املساواة والتفاهم في القدس بني الفلسطينيني واليهود )ولكنها ال تتحدث عن تقسيم املدينة(،28 إلى التحول الذي حدث في خطاب املستوطنني اجتاه املسجد األقصى ، ويشير إلى أن »سياسيي املعراخ )حزب العمل اليوم( في سنوات السبعينات باتوا أسرى اخلطاب الناري حلنان بورات، ورأوا في مستوطني الضفة الغربية »الشيء احلقيقي«: طالئعيون كما كانوا هم في شبابهم«... »للمطالبني بجبل الهيكل ال يوجد حدود، فهو يدخلون إلى احلرم ويصلون، ويرغبون بتشييد هيكل هناك وفرضه على العالم اإلسالمي وتغيير الوضع القائم، وهنالك أيضا من قرروا أن »الشيء احلقيقي« أصبح إقامة الهيكل الثالث في هذا املكان وجتديد طقوس األضحية«...... »الشيء املشترك لكل الباحثني عن »الشيء احلقيقي«، هو الدمج بني الفاعلية الصهيونية مع اليهودية، في املاضي متردت الصهيونية على الدين السلبي الذين كان ينتظر املشيح، وجاءت كبديل له. أخذت حركة غوش اميونيم الفاعلية الصهيونية ومبساعد أجهزة الدولة، نقلتها إلى امللعب اليهودي-املسياني. حتولت اليهودية من مصدر إيحاء إلى أمر تنفيذي وفعل، مرة مت تفعيل هذه املعادلة على هضاب هشومرون، واليوم تتوجه إلى هار هبايت«.29 ففي استطالع للرأي حول مواقف اليهود )شملت العينة 523 شخصا فوق سن 18(، أجري في العام 2013، تبين أن 30% من اليهود يؤيدون بناء هيكل في الحرم القدسي الشريف، مقارنة مع 22% أيدوا ذلك في العام 2012. كما أيد 59% من اليهود فكرة فرض تقسيم الحرم القدسي الشريف بين اليهود والفلسطينيين كما هو الحال في الحرم اإلبراهيمي الشريف في الخليل، ولم يظهر االستطالع فرقا بين المتدينين والعلمانيين في مسألة شغفهم للصعود إلى المسجد األقصى )68% من المتدينين و-60% من العلمانيين(. 77 عدد 60 خالصة جاءت فتوى حاخامات املستوطنني عام 1996، تعويضا عن تآكل املنظومة املسيانية التقليدية، وتنبع أهمية هذه الفتوى بأنها لم حتكم على نفسها أو استمرارها بسياقات وحلظات تاريخية مرت بها إسرائيل بعد ذلك، مثل اندالع االنتفاضة ، التي انطلقت من األقصى وزيادة التوتر حول املسجد األقصى، كما لم يردعها خروج االرثوذكسية اليهودية ضدها، وحتميل حاخاماتها مسؤولية الدماء واالخالل باألمن والنظام العام ملؤيدي دخول وصالة اليهود في املسجد األقصى. ملاذا نقول ذلك؟ في عام 1991 أصدر حاخام »حباد«، ميلوفيفتش فتوى ملريديه وتالمذته باالستعداد لالحتفال في املسجد األقصى، وشكلت الفتوى ثورة دينية في االرثوذكسية اليهودية، إال أنه تراجع عنها عندما اندلعت أحداث األقصى في العام نفسه، وقتل فيها مسلمون برصاص قوات الشرطة واألمن، واعتبر أن احلفاظ على دماء اليهود واألمن العام أهم من صالة اليهود في املسجد األقصى.30 أدت التحوالت في الصهيونية الدينية إلى مركزية املسجد األقصى في الفكر اخلالصي، في استطالع أجري في صفوف أبناء الصهيونية الدينية عبر 70% منهم عن رغبتهم بدخول املسجد أدت التحوالت في الصهيونية الدينية إلى مركزية المسجد األقصى في الفكر الخالصي، في استطالع أجري في صفوف أبناء الصهيونية الدينية عبر 70% منهم عن رغبتهم بدخول المسجد األقصى، فلم يعد يسمى من يدعو إلى ذلك بالمجنون، بل بات جزءا من تيار مركزي.31 أثرت هذه التحوالت ليس فقط على خطاب الصهيونية الدينية، بل أيضا على الخطاب السياسي عموما، قبل األحداث األخيرة في القدس، والهبة الشعبية، أيد الكثير من أعضاء الليكود ووزرائه تغيير الوضع القائم والسماح لليهود للصالة في المسجد األقصى . األقصى، فلم يعد يسمى من يدعو إلى ذلك باملجنون، بل بات جزءا من تيار مركزي.31 أثرت هذه التحوالت ليس فقط على خطاب الصهيونية الدينية، بل أيضا على اخلطاب السياسي عموما، قبل األحداث األخيرة في القدس، والهبة الشعبية، أيد الكثير من أعضاء الليكود ووزرائه تغيير الوضع القائم والسماح لليهود للصالة في املسجد األقصى . وقد انضم فاعلون مركزيون في موضوع املسجد األقصى إلى حزب الليكود للتأثير من الداخل على توجهات الليكود نحو تغيير الوضع القائم، مثل موشي فيغلني، يهودا غليك وغيرهم. لقد تغلغل الفكر الصهيوني الديني إلى الليكود اليميني احملافظ. يشير النقاش حول مركزية املسجد األقصى بني تيار السيادة السياسية وتيار اخلالص الديني في املشروع الصهيوني، إلى تآكل مفهوم الهوية اإلسرائيلية وصعود الهوية الدينية. إن انشغال أعضاء الليكود القوميني مبوضوع املسجد األقصى نابع من جتديد الهوية القومية بحيث يطمح هؤالء إلى التأكيد على الطابع االثني اليهودي في املجتمع والدولة، وهو يشبه أحزاب اليمني املتطرف في أوروبا التي تسوغ منظومتها االخالقية من خالل املرجعية الدينية. فقد حتول املسجد األقصى )جبل الهيكل( إلى قوة جاذبة قومية ودينية في مشروع اليمني. 78 عدد 60 هوامش 1 . ال بد من التوضيح االصطالحي ملفهوم »املسجد األقصى املبارك« في املخيال الوطني الفلسطيني واخلطاب الديني االسالمي، يشمل مفهوم املسجد األقصى، وهو ما سنتبناه في هذا البحث، منطقة التي تصل مساحتها 140 دومنا، وتشمل باحات وساحات ومساطب وأبنية املسجد األقصى مبا في ذلك مسجد قبة الصخرة، واملسجد املقابل له. وقاعات الصالة حتت ساحات المسجد الاقصى مثل المصلى المرواني. 2 . موطي عنباري، األصولية اليهودية وهار هبايت، القدس: اجلامعة العبرية، .1:ص ،2007 3 . املصدر السابق. 4 . تومر برسيكو، ملاذا يريد اجلميع فجأة الصعود جلبل الهيكل؟، ملحق هآرتس، .2014/11/14 5 . نداف شرغاي، جبل الصراع: الصراع على جبل الهيكل- يهود ومسلمون دين وسياسة، القدس: منشورات كيتر، 1995، ص: 50. 6 . نداف شرغاي، مصدر سابق، ص: 16. 7 . عفري ايليني، إذا استطاع الصليبيون، يستطيع نتنياهو أيضا، ملحق هآرتس، .42 :ص ،2015/10/16 8 . املصدر السابق. 9 . عنباري، مصدر سبق ذكره، ص:15. 10 . مهند مصطفى، املستوطنون من املركز الى الهامش، رام الله: مركز مدار الفلسطيني، 2013. 11 . عنباري، مصدر سبق ذكره، ص: 16. 12 . مقتبس من عند عنباري، مصدر سبق ذكره، ص: 19. 13 . املنشور مأخوذ من ملحق صحيفة هآرتس، 2014/11/14. 14 . عقيبا الدار وعديت زرطال، أسياد البالد: املستوطنون ودولة إسرائيل 1967- 2004، ترجمة: عليان الهندي )2006، بدون مكان ودار نشر(، ص: 244. أنظر أيضا: داني روبينشطاين، غوش اميونيم، )تل أبيب: كاف ادوم، 1982( ص: .69-65 15 . رخلبسكي، 1998، ص: 58، مقتبس من: عزيز حيدر، »ظاهرة الييشيفوت )املدارس الدينية( القومية: نشوؤها، تطورها ونتائجها االجتماعية والسياسية«، مجلة قضايا إسرائيلية، عدد 8، خريف 2002، ص: 85-74( 81(. 16 . يوآف بيلد وغابي شفير، من هو اإلسرائيلي: ديناميكية املواطنة املركبة )تل أبيب: جامعة تل أبيب، 2005(، ص: 173. 17. عنباري، مصدر سبق ذكره، ص: 20. 18. تومر برسيكو، مصدر سبق ذكره. 19. توم سيغف، 1967: واألرض غيرت وجهها، )تل أبيب: منشورات كيتر، 2005(، ص:576. 20. نداف شرغاي، مصدر سبق ذكره، ص: 62-61. 21. توم سيغف، مصدر سبق ذكره، ص:577-576. 22. مقتبس عند: نور مصاحلة، »االستيطان التبشيري- اليهودي والفلسطينيني: السياسة اجلغرافية، املستوطنات، املؤسسات والثقافة لدى غوش اميونيم«، في: اسعد غامن )محرر(. الهويات والسياسة في إسرائيل، )رام الله: مركز مدار، .131 :ص ،)2003 23. موطي عنباري، مصدر سبق ذكره، ص: 27-26. 24. املصدر السابق، ص: 27. 25. عزيز حيدر، »ظاهرة الييشيفوت )املدارس الدينية( القومية: نشوؤها، تطورها ونتائجها االجتماعية والسياسية«، مجلة قضايا إسرائيلية، عدد 8، خريف 2002، .)85-74( 84-83 :ص 26. رحيل اليئور، ثمن املسيانية، مجلة كيفونيم حداشيم )توجهات جديدة(، عدد .41 :ص ،2015 ،32 27. أنظر تفاصيل االستطالع في:نير حسون، »ثلث من اليهود في البالد يؤيدون إقامة الهيكل«، هآرتس، 2013/7/12، ص:19. www.ir-amim.org.il :اجلمعية موقع أنظر .28 29. مناحيم كالين، »الشيء احلقيقي«، هآرتس، 2013/7/10، ص: 13. 30. نداف شرغاي مصدر سبق ذكره، ص: 60. 31. كرني الداد، كيف حتول جبل الهيكل، الى جزء ال يتجزأ من النقاش العام، http://www.maariv.co.il/news/ :الرابط أنظر ،2015/7/28 معاريف israel/Article-490843

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق