بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 أغسطس 2017

«شونغ كوا الصين» لأنطونيوني: صورة هادئة لبلد الثورة الثقافية الصاخبة

لن يكون من الصعب كثيراً إدراك الأسباب التي دفعت السلطات الثقافية الصينية وفي عز ما كان يسمّى «الثورة الثقافية» الى اختيار المخرج الإيطالي ميكائيل آنجلو أنطونيوني، كواحد من عدد من السينمائيين العالميين المكلفين بصنع أفلام تقدم صورة منفتحة عن الصين الجديدة. فالسينمائي كان خرج الى العالم قبل سنوات وبات يعتبر بأفلام مثل «بلو آب» و «زابريسكي بوينت» واحداً من المفضلين لدى جمهور الشباب ناهيك بأن يساريته - المعادية للجمود السوفياتي - كانت لا غبار عليها. طبعاً سيحقق أنطونيوني الفيلم متجولاً بكاميراه وأفكاره وضروب تعاطفه في مناطق كثيرة من الصين ولا سيما في أنحاء بكين. سيصور الناس والمعالم والحياة اليومية، سيصور الأحداث الصغيرة التفصيلية التي سيكتشفها في طريقه. سيصور الكثير، أكثر من ثلاثين كيلومتراً من الشريط السالب ليختصر كل ذلك لاحقاً في ساعتين. لكنه سيقول بكل وضوح ان الحرية التي كان موعوداً بها لم تتحقق وأن الرقابة كانت تحيط به في كل مكان «غير أن هذا لم يكن شيئاً أمام عجزي عن تصوير المشاعر والوجوه، عجزي عن سبر أغوار الناس وتمكين كاميرتي من إدراك ما الذي يفكرون به حتى وهم يبتسمون تلك الإبتسامة الغامضة».
> يومها أبدت السلطات الصينية رضا وإن محدوداً عن النتيجة، لكن المشكلة كمنت في التيارات «الماوية» الإيطالية التي كانت منذ البداية عبرت عن اعتراضها على أن تكلف بكين «مخرجاً يتبرجز الى هذا الحد» بتلميع صورة الصين وثورتها الثافية في العالم. أما صاحب العلاقة نفسه فلسوف يقول في تقديم للكتاب الذي نشر فيه سيناريو الفيلم أن هذا الأخير كان «من باب الدعاوة بالتأكيد ولكن ليس فيه أي كذب على الإطلاق (...) صحيح أن ما تحمله الشاشة من صور هو تلك التي أراد الصينيون حقاً نقلها الى العالم، غير أنها ليست بأي حال صوراً تختلف عن الصورة الحقيقية التي شاهدتها بأم عيني لا تختلف أبداً عما عاينته في هذا البلد». ولا بد أن نذكر هنا، على سبيل توضيح بعض الخلفيات التي لم يذكرها أنطونيوني في مقدمته، وإن كان من السهل جداً أن يدركها متفرجو الفيلم، أن الفيلم يتألف من بعدين يتكاملان: الصورة من ناحية، والتعليق من ناحية أخرى. صحيح أن الصورة غالباً ما تتكامل مع التعليق الذي يشرح ما يدور من أحاديث بين الأشخاص والأغاني واليافطات والشعارات. والصورة كما أشرنا تمعن في كل لحظة في تصوير وقائع الحياة اليومية داخلة حتى الى بيوت الناس مصوّرة بعض التفاصيل المعتادة فيها بما في ذلك التماثيل النصفية لماو تسي تونغ أو نسخ الكتاب الأحمر الماثلة في كل مكان. غير ان هذا كله لا يتخذ هنا أي بعد سياسي بل يبدو أحياناً من قبيل الزينة المنزلية لا أكثر، حتى حين يحاول المعلق أن يورد بعض الإضاءات التاريخية. غير أن ثمة لحظات في الفيلم يبدو فيها التعليق وكأنه محمل بمعان مضمّرة كما الحال، مثلاً، حين يقول التعليق: «هنا أمة فقيرة لكنها ليست بائسة. إنها أمة لا تعرف الترف ولا الرخاء، لكنها لا تعرف الجوع أيضاً (فالرخاء والترف هما هنا وعد للأزمان المقبلة!). والسكان يتمتعون بصحة جيدة». هنا في مثل هذه المشاهد وأمام مثل هذه التعليقات نلاحظ فوراً أن الكاميرا غير قادرة على رؤية ما يكمن خلف نظرات الناس ووجوههم التي لا تعبر عن شيء، فيفيدنا التعليق أن «العواطف والبؤس أمران يكادان أن يكونا غير مرئيين في الصين، وربما بفعل التحفظ وربما بفعل الحياء والتواضع».
> غير انه يحدث أحياناً للمعلق أن يخرج عن تحفظه كي يعبر ولو بلهجة تبدو حيادية عن إحباطاته أمام كثرة الأمور التي لا يتعين عليه تصويرها، ومن هنا ما ندركه من أن الكاميرا عمدت في بعض الأحيان الى أن تختبيء - مع صعوبة ذلك بالنسبة الى ثقل المعدات قبل الابتكارات التقنية الأكثر حداثة التي وجدت لاحقاً وكان من شأنها أن تبدل الصورة تماماً لو كانت متوافرة لأنطونيوني -، لكي تصور مشاهد تتطابق هنا مع ما «يحاول» التعليق التعبير عنه ولو مواربة...
> مهما يكن عرفت كاميرا أنطونيوني كيف تصور الحياة المفعمة بالروح والحيوية في مناطق لم تكن من المحظورات ولا سيما مثلاً خلال مشاهد تصور زيارة سور الصين، أو الأزقة المدهشة في أحياء بكين النظيفة على رغم فقرها. في كل هذا إذا صور أنطونيوني صيناً غير معهودة في ذلك الحين. صحيح أن الفيلم لم يلق ترحيباً كما قلنا من «الماويين» الإيطاليين، لكنه قال كلمة مبدعه حول ذلك البلد الصعب في شكل بدا وكأنه يستكمل الصور التي كان قدمها للندن وأميركا وسيقدمها لأفريقيا وغيرها في أفلامه التالية.
> عاش ميكائيل انجلو انطونيوني، الذي رحل قبل عشر سنوات عن عالمنا بعد ساعات قليلة من رحيل عملاق الفن السابع الآخر انغمار برغمان، عاش طوال العقد الأخير من حياته خارج العالم تقريباً، لا يسمع، وبالكاد يرى، ويستعصي عليه التعبير بأي كلام، ومع هذا ظل ثاقب البصيرة قادراً على أن يحقق افلاماً عدة انطلاقاً من أن السينما هي ملكوت تعبيره، حين يخونه أي ملكوت تعبير آخر.
> الذين يعرفون سينما انطونيوني جيداً ورافقوها منذ زمن مبكر، أو على الأقل منذ أول فيلم وضعه في ساحة الفن السابع وفي مقدم شاغلي تلك الساحة، أي «تاريخ حب» (1950)، يعرفون أن انطونيوني ما كان أبداً في حاجة الى كلام كثير ليقول ما عنده. كانت الصورة والحركة وسيلتي التعبير المثاليتين لديه، بحيث أن الكلام والحوارات كادت تبدو في أحيان كثيرة زينة لا أكثر. ويمكننا أن نقول في هذا السياق أن أعظم لحظات أفلامه كانت دائماً لحظات صامتة. وحسبنا أن نعود الى روائعه من «المغامرة» الى «التعرف على امرأة» كي ندرك هذا.
> أنطونيوني الذي ولد العام 1912، بدأ حياته صحافياً وكاتباً، قبل ان يتوجه الى روما ثم الى باريس حيث عمل مساعداً لمارسيل كارنيه في «زوار المساء». وإثر عودته الى روما، قرر أن يتحول الى الإخراج السينمائي ليحقق افلاماً تسجيلية، لعل أهمها في ذلك الحين «سكان البو» الذي حكى عن حياة الصيادين الفقراء، ما أعطى المخرج سمة رافقته طويلاً ثم عمل جاهداً حتى يتخلص منها: صفة «الواقعي الجديد». وليتخذ أنطونيوني لنفسه سمات أكثر فرادة ومنطقية، كان عليه أن يمر في مطهر بعض السينما الواقعية، حتى تحقيقه «تاريخ حب». غير أن الذروة التي أوصلته الى مكانته الكبرى كواحد من كبار مبدعي الفن السينمائي، ستحمل اسم «المغامرة» العمل الرائع الذي لا يزال يعتبر أحد أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما، مع إنه هوجم ورجم حين عرض للمرة الأولى في مهرجان «كان» العام 1960. يومها اضطر سينمائيون كبار الى إصدار عريضة للدفاع عنه. ومنذ ذلك الحين راحت أفلام انطونيوني تتتالى، ليشكل كل واحد منها حدثاً. لكن تلك الأفلام لم تبق إيطالية فقط، إذ بعد تحقيقه «الصحراء الحمراء» (1964) كتتويج لسلسلة افلامه الإيطالية، ومنها «المهزومون» و «الصرخة» و «الليل» و «الكسوف» (وكل منها يشكل علامة في تاريخ السينما)، توجه انطونيوني الى لندن ليصور «بلو آب» عن قصة لخوليو كورتاثار، ثم الى الولايات المتحدة حيث حقق «زابريسكي بوينت» (1970)، ثم الى الصين ليحقق واحداً من أفضل ما حقق عنها من أفلام وثائقية، وثنّى على ذلك بـ «المهنة مخبر» الذي صور بين إسبانيا والمغرب، ثم «سر أوبروالد» و «التعرف إلى امرأة» الذي كان آخر أفلامه الكبرى قبل إصابته بالجلطة التي أفقدته معظم حواسه، ولكن ليس «حاسة السينما» كما كان يقول لزميله الشاب فيم فندرز الذي عاونه في تحقيق «ما وراء الغيوم»...
> بموته عام 2007 وهو يقترب من سن المئة، انطوت مرحلة كبيرة من تاريخ السينما الإيطالية والعالمية، مرحلة من المؤكد أن البداوة كانت رائدتها، وهمّ الوجود الإنساني وقلق البشر موضوعها. فأنطونيوني كان، خلال النصف الثاني من حياته، واحداً من الكبار الذين أدركوا انه اذا كانت ثمة عولمة حقيقية في هذا العالم فإن الفن السابع هو مرآتها، وأنه إذا كان ثمة من فن يعكس القلق الوجودي حقاً، فإن هذا الفن هو فن السينما بامتياز.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق