بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 6 سبتمبر 2017

ذكريات من رحلة عرفات لتوقيع أوسلو

«هذه أول مرة سيرتفع فيها علم فلسطيني على أرض فلسطينية محررة. هذا مكسب معناه أن شعبنا ثـُــــبّــت على الخريطة السياسية والجغرافية في النظام العالمي الجديد»… قالها الزعيم الراحل ياسر عرفات وهو في طائرته من تونس إلى واشنطن لتوقيع «اتفاق إعلان المبادئ» المعروف باسمه الأشهر «اتفاق أوسلو».
كان ذلك قبل يوم واحد من حفل التوقيع في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، كان «الختيار» في صالونه الخاص بالطائرة الملكية التي وضعها على ذمته العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني. أنهك المسكين بكم هائل من المقابلات الصحافية، كانت الطائرة ملآنة بمراسلي كل وسائل الإعلام في العالم الذين جاءوا إلى تونس لمصاحبته في تلك الرحلة التاريخية.
كان مروان كنفاني مستشاره الإعلامي آنذاك وأحد أقرب مساعديه يطل بين الحين والآخر من خلف ستار جناح الرئيس لينادي هذا المراسل أو ذاك فيبقى قرابة العشر دقائق ثم ينادي من يليه وهكذا. كنت وقتها من أواخر من نودي عليهم رغم ما كانت تتمتع به إذاعة «مونت كارلو» من شعبية كبيرة في الأوساط الفلسطينية والمنطقة العربية عموما. تبدد قلقي في النهاية، سلمت وجلست، كان «أبو عمار» قد «استوى» تماما من كثرة الحديث وربما من ترديد الجمل نفسها إلى كل واحد منا. 
« أقول إلى أهلي وربعي، إلى أحبائي ورفاقي، إلى كل المجاهدين والمناضلين، أطفالا ونساء ورجالا، نحن كما قلت لكم على موعد مع النصر، نحن على موعد مع الفجر»… واحدة من تلك الجمل التي قالها لي، ولغيري بالتأكيد. وكلمة الفجر تحيل هنا إلى ما قاله الراحل محمود درويش في أربعينية عرفات من أن «أفعال هذا القائد الخالد، الذي بلغ حد التماهي التام بين الشخصي والعام، قد أوصلت الرحلة الفلسطينية الدامية إلى أشد ساعات الليل حلكة، وهي الساعة التي تسبق الفجر، فجر الاستقلال المر، مهما تلكأ هذا الفجر، ومهما أقيمت أمامه أسوار الظلاميين العالية». 
ربما لم يدر في خلد محمود درويش ولا ياسر عرفات من قبله بالتأكيد، أن حلكة ما قبل هذا الفجر ستصل هذا المدى الذي نعيشه هذه الأعوام، ولا بزوغ هذا الفجر المنتظر سيكون بكل هذا الاستعصاء والمرارة. 24 عاما كاملة، تراجع فيها الحلم الفلسطيني ليتقزم إلى أدنى مستوياته. كان اتفاق أوسلو «مغامرة» في حده الأدنى وفق تعبير الراحل محمد حسنين هيكل الذي نصح عرفات، وفق ما قاله لي شخصيا، بأن يخوض التجربة دون أن يضع كل بيضاته في هذه السلة، وبالذات ألا يعود هو شخصيا إلى الداخل، أن يبقى في الخارج قيادة جامعة للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات وأن يراقب تقدم التجربة حتى لا يصبح في يوم من الأيام رهينة هذا الخيار.. وهو ما حصل في النهاية للأسف. كان عرفات مسكونا بالخوف من الانقلاب على زعامته، بدسائس تطبخ هنا أو هناك، قد تسعى لتلميع قيادات بديلة تسحب البساط من تحت أقدامه. هل كان محقا في توجسه هذا؟ ربما. 
لم يفعل عرفات بنصيحة هيكل، ولا بنصيحة غيره في هذه المسألة، ظن أن مجرد موطئ قدم على أرض الوطن كفيل بأن يجعله في موقع أفضل لتجسيد حلم الدولة الفلسطينية «على أي شبر يتم تحريره أو الجلاء منه» وراهن على أن قيام السلطة الوطنية سيكون بلا شك مقدمة لذلك. أما إسرائيل فراهنت على أمر آخر، خططت لتجويف هذه السلطة وجعلها «خالية من الدسم» بمعنى تحويلها تدريجيا، وبفعل سياسة الأمر الواقع وموازين القوى المختلة، إلى مجرد وسيط بين الاحتلال والفلسطينيين، ولم لا إلى مندوب عن احتلالها هذا، مع سعي حثيث ويومي إلى تقزيم دورها وإفساد عناصرها وتشويه هدفها وحرفه. كان لكل من عرفات والإسرائيليين حساباته الخاصة، ولكل منهما شيطانه الذي يحتفظ به في جيبه، لكن في النهاية ينتصر الشيطان المدعوم لا الشيطان الذي خذله قومه والمحيطون بهم من العرب. 
يومها دعينا على عجل لأخذ جوازات سفرنا والتوجه إلى القسم القنصلي بالسفارة الأمريكية في تونس لاستصدار تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة، كان هذا القسم مزدحما بكل الصحافيين العرب وكل الطاقم المصاحب لعرفات الأمني والسياسي فهؤلاء لم يكونوا وقتها من النوع الذي يمكن أن يكون حائزا على تأشيرة من بلد ما زال يعتبره وقتها «منظمة إرهابية». كانت هناك حالة طوارئ استدعت من القسم القنصلي أن يبقى مفتوحا طوال الليل لإنهاء كل معاملات التأشيرة التي لم يستغرق وقت حصولي عليها وقتها سوى أقل من ساعة. 
كان الطقس مشمسا في حديقة البيت الأبيض والكل مأخوذ بالأجواء الاحتفالية التي رافقت الحدث. كان الأمل كبيرا في أن صفحة جديدة قد تكون فتحت… وقد كان، ولكن ليس كما كان يظن الفلسطينيون. ربما كان علي إدراك ذلك مبكرا بمجرد مشاهدتي هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأشهر، يغادر ذلك الحفل في نهايته وهو يبتسم ابتسامة عريضة… مع أنه كان وحيدا…
*محمد كريشان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق