بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

«ثائر من دون قضية» لنيكولاس راي: يوم كان للثورة معنى

لا شك في أن تعبير «ثائر من دون قضية» بات تعبيراً رائجاً ولا سيما في الحياة السياسية العربية منذ سنوات عديدة، بخاصة منذ اختفت القضايا الكبرى أو خبت مع الوهن الذي أصاب القيم في شكل عام، فكثر «الثوار» والممانعون والمقاومون وذوو القبضات والأصابع المهددة المرفوعة، من دون أن تكون لأي منهم قضية حقيقية تبرر
وجوده. غير أن تعبير «ثائر من دون قضية»، وقبل أن «تتبهدل» الثورات في بلادنا، كان في أصله تعبيراً منطقياً يتحدث عن ثورات شبابية اندلعت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين يتعلق بشبان ينتفضون غاضبين صاخبين لكنهم خلال انتفاضتهم يسعون للعثور على قضية. وكانوا غالباً ما يجدونها في تلك الأزمنة التي كان لا يزال للقيم مكان فيها. أما الاستخدام الأشهر للتعبير فقد ارتبط بأسطورتين وفيلم عبّر عنهما: أسطورة جيمس دين من ناحية، وأسطورة ناتالي وود من ناحية أخرى. وأما الفيلم فكان ذاك الذي حققه نيكولاس راي تحديداً في العام 1955 تحت ذاك العنوان الذي بات شعاراً منذ ذلك الحين: «ثائر من دون قضية». ولعلنا لسنا في حاجة ماسة هنا لتفسير علاقة العنوان بالأسطورتين وذلك تحديداً لأن كمّاً كبيراً من الدراسات السوسيولوجية والسيكولوجية وضع حول الأمر وكان محورها الدائم جيمس دين نفسه الذي فصل مقتله الفاجع بعد حين من تحقيق الفيلم، في حادث سيارة، بين أسطورته وأسطورة شريكته في الفيلم التي عاشت من بعده طويلاً لتموت هي الأخرى موتاً فجائعياً ولكن في زمن كانت فيه الأساطير من ذلك النوع قد همدت.
> مهما يكن، نبقى هنا عند الفيلم نفسه وعند عنوانه الذي أتى مقتبساً أصلاً من كتاب في علم النفس الإجرامي وضعه المحلل النفسي روبرت ماكلندنرز في العام 1944، متنبئاً فيه بمجيء شبيبة غاضبة ثائرة على كل شيء من دون أن تعرف ما هو البديل. ومن هنا، حين حُقّق الفيلم وأُسندت بطولته الى جيمس دين الذي كان صعوده الهوليوودي صاعقاً، ارتبط المفهوم به وبسرواله «الجينز» وسترته الجلدية الى أبد الآبدين. لكنه ارتبط أكثر من ذلك بثورات الشبيبة التي ما لبثت أن اندلعت لتعمّ العالم خلال العقود التالية، فأتى مقتل جيمس دين في عز نجاحه و «تمرّده» ليعطي للفيلم ذاته طابع الأسطورة جاعلاً منه العمل الرئيس في مسار نيكولاس راي السينمائي. والفيلم يتحدث ببساطة عن مراهق في السابعة عشرة يدعى جيمس ستارك ينتقل مع والديه حديثاً الى ضاحية لوس انجيلوس، حيث سرعان ما تقبض عليه الشرطة بتهمة الشرب في الشارع العام وتتكشف في قسم الشرطة مشاكله العائلية التي تدفعه الى التمرد ضمن إطار مناخ مراهقين يعيثون فساداً في الضاحية كما في حياتهم، حتى يشكل نوعاً من عصابة مع حبيبته الصبية وصديق لهما يدعى بلاتون وينتهي الأمر بمطاردة الشرطة لهم ومحاصرتهم حتى مقتل الصديق وإفلات الفتى وفتاته من ذلك المصير في اللحظات الأخيرة فيما الأب يعلن أنه قد قرر استعادة سلطته الأبوية كي لا يسوء مصير ابنه.
> على هذه الشاكلة قد يبدو الفيلم بسيطاً وذا نهاية سعيدة. لكن قوته لا تكمن في حكايته بل في أجوائه ولغة المراهقين الغاضبين التي تسيطر عليه. وهذا ما جعل نيكولاس راي يعتبر سينمائي العواطف المراهقة المميز في ذلك الحين. مهما يكن فإن راي، سيكون السينمائي الكبير الوحيد الذي جعل منه سينمائي كبير آخر، هو الألماني فيم فندرز، موضوعاً لفيلم طويل حققه. إذ من المعروف أن آخر ظهور على الشاشة لراي كان في فيلم «نيكس موفي» لفندرز وهو عبارة عن تحقيق ليس بالضرورة عن حياة راي وأعماله، بل عن وحدته. فهذا الهوليوودي بامتياز، الذي رافق مسيرة السينما الأميركية طوال ما يقرب من نصف قرن من الزمن، كان على الدوام أشبه بـ «ذئب وحيد» تبعاً للقب الذي كان يفضله، وهو إذ رحل عن عالمنا في شهر حزيران (يونيو) 1979، بعد شهور قليلة من تحقيق فندرز فيلمه عنه، رحل وحيداً يصارع مرضه الخبيث وحده بكل شجاعة وقوة، من دون أن يسأل أحداً أيّ مساعدة. وكأنه شاء، حتى ساعاته الأخيرة، أن يطبق ما كان قاله ذات يوم خلال حديث أجرته معه مجلة «كراسات السينما» الفرنسية التي كانت هي من «أعاد اكتشافه» و «انتشاله» من «مستنقعات وغابات همجية السينما الأميركية» لتقديمه كسينمائي متكامل على الطريقة الأوروبية وكصاحب رؤية ومشروع. قال راي في ذلك الحديث: «إنني غريب وحيد في هذه الحياة الدنيا». وأضاف أن «البحث عن حياة مليئة، إنما هو فعل يقوم به المرء بمفرده ولحسابه الشخصي وينتهي به لأن يتوحد مع ذاته. فأنا أعتقد أن الوحدة شديدة الأهمية بالنسبة للإنسان شرط ألا تكون مزعجة له».
> ومن يتابع حياة نيكولاس راي ويتدرب على قراءة السطور الخفية لأفلامه سيدهشه كم أن الرجل ظل على الدوام أميناً لمبدئه ذاك. فمنذ طفولته في ولاية ويسكونسين الأميركية حيث ولد في 1911، أبدى اهتماماً بشتى أنواع الفنون بخاصة بالهندسة المعمارية التي سرعان ما انصرف لدراستها تحت إشراف المعماري الكبير فرانك لويد رايت الذي ظلت أعماله الهندسية مؤثرة فيه حتى النهاية. أما فن الاستعراض فقد وصله من طريق صداقته لإيليا كازان الذي تعرف عليه أواسط سنوات الثلاثين حين كان هذا الأخير يدير فرقة مسرحية يسارية فتعاقد معه كممثل مسرحي. ثم ابتداء من أواسط سنوات الأربعين اتخذه كمساعد له ما أدخله عالم السينما من الباب العريض، وأتاح له في العام 1947 أن يحقق فيلمه الأول «إنهم يعيشون تحت جنح الظلام» ويتحدث عن فتى وفتاة يطاردهما رجال الشرطة.
> والحال إن راي وضع في ذلك الفيلم الأول كل العناصر التي سوف تملأ أفلامه التالية: هشاشة أبطاله ووحدتهم، عدم امتثاليتهم، ورومانطيقيتهم. وهي كلها عناصر سوف تتفجر متألقة في ذاك الذي سرعان ما صار واحداً من أشهر أفلامه: «ثائر من دون قضية» (1955) الذي أطلق كما أشرنا أعلاه أسطورة جيمس دين، وأوصل نيكولاس راي الى ذروة مجده السينمائي. لكن هذا لا يعني أن أفلامه التي كان حققها قبل ذلك لم تكن مهمة أو لم تنل ما تستحقه من شهرة، اذ في العقد الذي مر بين فيلمه الأول و «ثائر من دون قضية» حقق راي أفلاماً مثل «سر امرأة» (1949)، ثم فيلمين من إنتاج وتمثيل همفري بوغارت هما «أزقة البؤس» و «العنيف» الذي أتى أشبه بيوميات صوّرها راي حول حياته الماضية مع زوجته غلوريا غراهام.
وبعد ذلك، حقق نصف دزينة من الأفلام كان أشهرها بالطبع «جوني غيتار» (1954) الذي لا يزال يعتبر حتى اليوم واحداً من أجمل كلاسيكيات السينما الأميركية، وكان بإمكانه أن يظل معتبراً أفضل وأشهر أفلام نيكولاس راي لولا طغيان شهرة «ثائر من دون قضية» عليه. ولكن في الوقت ذاته الذي وصل فيه هذا الفيلم الأخير الى الذروة، بدأ العداء من حول راي يشتد لدى المؤسسة الهوليوودية التي لم يكن من شأنها أن تتسامح كثيراً مع ذلك القدر من التمرد والخروج على المألوف الذي ضمنه راي لأفلامه وجعلها تبدو وكأنها تسير عكس تيار السائد الهوليوودي.
> وبدلاً من أن يجابه راي غضب هوليوود متمرداً عليها كما فعل مواطنه جوزيف لوزي، خضع لمنطقها فراح يحقق أفلاماً تجارية اعتيادية متلاحقة، من دون أن يفقه، هو نفسه، سبباً لذلك الاختيار. ولكنه حتى ضمن ذلك النمط عرف كيف يحقق أفلاماً في غاية القوة مثل «ملك الملوك» (1961) و «55 يوماً الى بكين» (1963). ولكنه فيما كان يعمل على هذا الفيلم الأخير أصيب بجلطة قلبية دفعت منتجي هوليوود الى التخلص منه بوضعه على الرف. وهو عاش بعد ذلك عقداً ونصف العقد من السنين في وحدته ووسط آلامه وأمراضه، وكاد يُنسى كلياً، الى درجة أن الناس اعتادوا على الكلام عن «ثائر من دون قضية» بوصفه «فيلماً لجيمس دين»، كما على نسيان انه هو مخرج «جوني غيتار». ولم يخرجه من وحدته المطلقة، قبل موته بشهور سوى فيم فندرز الذي أعاده الى الواجهة في الفيلم الذي حققه عنه وكان وصيته الأخيرة، إذ إنه - في نهاية الأمر - مات قبل ان يرى الفيلم النور. فظل الفيلم شهادة متأخرة عن فنان كان يمكنه أن يقول دائماً: لقد قتلتني هوليوود.
* ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق