بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

«بقايا اليوم» لإيشيغيرو: عن تلك العواطف التي ندفنها في الأعماق

يشترك الكاتب كازوو إيشيغيرو الفائز قبل أيام بجائزة نوبل للآداب، مع زملاء له من طينة نايبول وقرشي وحتى أهداف سويف، في كونه يكتب أعماله بالإنكليزية التي لا يمكن اعتبارها لغته الأم، لكنه يفترق عنهم في كونه ليس متحدّراً من بلد كان خاضعاً للاستعمار أو حتى للوصاية من قبل بريطانيا العظمى على رغم أنه يعيش فيها منذ زمن
بعيد. وبالتالي لا يمكن أن يقال عن أدبه أنه من ذاك النوع الذي يصنّف كأدب ما بعد الكولونيالية، واستطراداً ينتفي فيه ذلك الطابع الأيديولوجي الذي وسم ذلك الأدب من ناحية، لكنه أفاده من ناحية أخرى كون تصنيفه أمّن له في بعض الأحيان مقروئية تنتج من التعاطف الفكري بمقدار – أو أكثر مما – تنتج من اندماج جمالي ما. أدب إيشيغيرو هو أدب خالص بالمعنى الكبير للكلمة. أدب من دون توابل أو مقوّيات. ومن هنا قوته وكون الكاتب يشكل جزءاً من تاريخ الأدب الكبير في القرن العشرين. ربما يرى البعض في هذا مأخذاً في زمن لا يزال يخضع لهيمنة البعد الأيديولوجي الموروث من القرن العشرين وربما من بعض لحظات القرن التاسع عشر، لكن هذا لم يمنع البوكر من منحه إحدى أكبر جوائزها قبل أن يأتي محكمو نوبل ليختاروه في بيان عبثاً نبحث فيه عن عبارة تخرج عن نطاق القيمة الأدبية والإنسانية لروايات هذا الكاتب، هذا من دون أن نحصي الجوائز العديدة الأخرى التي نالتها أعماله وبخاصة منها روايته الأشهر «بقايا اليوم» التي يراها كثر واحدة من أجمل الروايات التي كتبت باللغة الإنكليزية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ومن دون أن ننسى أن الفيلم الذي اقتبسه الراحل جيمس آيفوري عن الرواية عام 1993 من تمثيل أنطوني هوبكنز وإيما تومبسون رُشّح لما لا يقل حينها عن ثماني جوائز أوسكار.
> مع هذا لا روايات إيشيغيرو وبالتحديد رواية «بقايا اليوم» يمكن اعتبارها أدباً شعبياً من النوع الذي قد يستهوي جمهوراً عريضاً، حتى وإن قالت لنا الأرقام إن كثراً يُقبلون على قراءة هذه الروايات في الإنكليزية كما في اللغات العديدة التي تترجم إليها، ناهيك بأن الفيلم يبقى الأنجح والأكثر شعبية بين كل الأفلام التي حققها آيفوري على مدى تاريخه السينمائي. وهما نجاح أدبي وسينمائي كان من الصعب توقعه على أي حال. ولا سيما إن عرفنا أن الرواية على رغم «تاريخية» أحداثها هي رواية عن العواطف والأحاسيس الجوّانية لدى البشر، وإنها على رغم أن «أحداثها» تدور في أجواء الأرستقراطية الإنكليزية الرفيعة، رواية عن العالم السفلي: عالم الخدم. فلمرة في أدب رفيع من هذا المستوى يكون الخدم هم الأبطال، هم المدافعون عن إنسانية الإنسان وقد اعتقل في فخّ وضعيّته غير محاولٍ أن يخرج منها أو حتى يتمرّد عليها. فالحقيقة أن تعريفاً لعمل إبداعي ما بكونه يدور في عالم الخدم كان من شأنه للوهلة الأولى، وضمن السياق المعتاد للأدب الأيديولوجي، أن يضعنا في مجابهة مباشرة مع عالم الصراعات الطبقية. لكنها غائبة تماماً هنا. فإذا كانت ثمة أيديولوجيا في ثنايا هذا العمل الإبداعي، فإنها ماثلة في مكان آخر سنشير إليه بعد سطور. وإذا كانت ثمة صراعات فإنها صراعات جوّانية لها علاقة بالعواطف كما لمّحنا وكما سوف نرى.
> إذاً ثمة حقاً عالمان في «بقايا اليوم» يتعايشان خلال السنوات القليلة التي تسبق الحرب العالمية الثانية يوم كان السجال الأوروبي، والبريطاني خصوصاً، محتدماً من حول الصعود النازي في ألمانيا الهتلرية. لكن هذا لا يشكل سوى الخلفية التاريخية للرواية، ولا يعني سوى العالم العلوي: صاحب القصر الذي تدور فيه الأحداث وبالكاد تخرج منه. أما أبطال الرواية الحقيقيون فإنهم يعيشون وكأن هذا لا يعنيهم. إن كل واحد منهم منصرف إلى عمله يتقنه ويبدع في إتقانه من دون أن يكون له من الفضول ما يدفعه إلى الاهتمام بما يجري في القصر خلال حفلات العشاء والاستقبال التي يدعو إليها اللورد دارلنغتون، سيد القصر الذي سندرك سريعاً أنه إنما يسعى من خلال تلك اللقاءات إلى فتح حوار بين الحكومة البريطانية والسلطات النازية، ليس تماماً لتحويل إنكلترا إلى بلد نازي ولكن بغية إقامة تحالف مع برلين يجنّب بلاده مهالك الحرب التي تلوح في الأفق. العالم السفلي تحت إدارة وإشراف رئيس الخدم مستر ستيفنس لا يهتم بالتالي بما يحدث. همّه أن تكون الصالونات مرتّبة والأقداح نظيفة والمشروبات فاخرة وكل شيء على أحسن ما يرام، وليس فقط لأن في هذا إرضاء ومسايرة لصاحب المكان، بل أكثر من هذا لأن تلك هي قواعد اللعبة. ذلك هو الدور الأنيق والصموت والنظيف الذي يلعبه الخادم الأنيق والصموت والنظيف بدوره في ذلك المجتمع الصارم في طبقيته وقواعده. ومن الواضح أن مستر جيمس هو الجهة التي تسعى في كل لحظة وحين إلى تأمين التساوق المطلوب حتى وإن كانت قواعد اللعبة أصلاً لا تفرض عليه أن يتدخّل في كل لحظة.
> لكنه يتدخّل لمجرد أن هذا هو دوره. يتدخّل في صرامة دقيقة بوجهه الذي لا يلوح عليه ولو قدر ضئيل من المشاعر. وفي صرامته وحياديته، وقيامه الأمثل بما يمليه عليه الواجب وتمليه عليه المكانة، كان من المستحيل بالطبع على المستر جيمس أن يتنبه إلى انجذاب تلك الخادمة الصبيّة الحسناء إليه. فالآنسة كنتون المدبّرة الناجحة واللطيفة تبدأ ذات لحظة بالشعور بأن شيئاً ما في شخصية هذا الرجل يخاطبها شخصياً وتشعر أنها معنيّة به، وفي خفية عن ذاتها قد تشعر ذات لحظات بأنه هو بدوره معنيّ بها لكنه لا يصرّح بمكنوناته. إنها تتفهمه، وبالتالي ستحاول أن «تجرّه» إلى عالمها العاطفي بطرق مختلفة ومتنوعة، لكنها دائماً طرقٌ لطيفة. ومع هذا يُبقي مستر جيمس من حوله ساتراً عازلاً يقيه حتى التفكير في الاستجابة لتلك العاطفة التي ربما يشعر في عمق أعماقه أنّ أيّ استجابة إليها سيكون فيها خرق للقواعد واعتداء على ما جعل من حياته كلها – حتى الآن وربما الى أبد الآبدين أيضاً – جزءاً من اللعبة الاجتماعية التي لا يريد أن يحيد عنها أبداً. والحقيقة أنه قد يحدث له في بعض الأحيان ان يلين ثم لا يلبث أن يستعيد توازنه ليعود تلك الآلة الصماء. وهكذا حين تصارحه الآنسة كنتون ذات يوم بأنها ستترك العمل لأنها ستتجاوب مع طلب السيد بن الذي تعرفت عليه أخيراً بالزواج منها، سيوافق بسرعة ولكن كالمذهول، غير متنبه الى أنها تنتظر منه ان يرفض الفكرة ويصارحها اخيراً بأنه يبادلها مشاعرها. لكنه لا يفعل... فتترك العمل والمنزل غاضبة وقد خابت كل آمالها.
> أما هو فسيواصل حياته من دون أدنى تغيير، وهو حتى حين يفشل اللورد دارلنغتون في مخططاته ويفقد حظوته ويباع القصر الى الثري الأميركي مستر لويس، لن يبدل ذلك من الأمر شيئاً. لكنه ذات يوم بعد سنوات طويلة من مغادرة الآنسة كنتون، سيتذكرها ويتساءل عما اذا كانت سترضى الآن بالعودة للعمل الذي كان واضحاً له أنه يحتاجها. وبالتالي سيغادر القصر قاصداً مكان إقامتها ليجتمع بها محاولاً إقناعها بالعودة. فترفض بكل لطف رفضاً كان يشفّ منه أنها كانت ستقبل لو عرض عليها العودة اليه لا الى العمل في القصر. لكنه مرة أخرى لم يفعل وحين يحدّثها عما تبقى من أيامه سيكون المقصود من جانبه، ما تبقّى من العمل الذي ينوي القيام به في خدمة السيد الأميركي الجديد. وهكذا ينتهي اللقاء بينهما كما بدأ: لطيفاً أنيقاً حزيناً.... يبدو خلاله من الواضح ان المستر جيمس لن يتغير أبداً، وأن العواطف ستبقى دفينة في داخله لما تبقى له من أيام... ولكن من دون ان يعني هذا انها ليست موجودة هناك في ذلك الداخل الذي يصرّ على إحاطته بأسمك الأسوار.
> ولد إيشيغيرو في ناغازاكي اليابانية عام 1954 أي بعد ثماني سنوات من إلقاء الأميركيين قنبلتهم النووية عليها كما على هيروشيما. وكان في الخامسة حين هاجر مع أبويه إلى بريطانيا حيث سيدرس لاحقاً في جامعة كانط ويحصل على إجازة جامعية في الأدب والفلسفة قبل دراسة الكتابة الإبداعية في جامعة إيست آنغليا منصرفاً منذ عام 1982 إلى إصدار الروايات والقصص القصيرة وكتابة السيناريوات السينمائية والكوميديات الموسيقية التي راح نجاحها يزداد بالتدريج ليصبح أحد الأسماء الراسخة في الحياة الثقافية الإنكليزية.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق