بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 22 مايو 2018

«دخول الصليبيين إلى القسطنطينية» لديلاكروا: الفن والإيديولوجيا

«كل الرجال الكبار تقريباً، يعيشون حياة أكثر تقلباً وأكثر بؤساً، من حياة الرجال الآخرين». قائل هذه العبارة، هو ديلاكروا، الذي - على رغم هذا القول - كان كثر من أهل الأوساط الفنية في فرنسا القرن التاسع عشر، يعتبرونه سعيداً، بل الأكثر سعادة بين أبناء جيله كافة من الرسامين والشعراء والأدباء إلى جانب اعتباره الأكثر نجاحاً في زمنه 
من ناحية مساره المهني والصعود الاجتماعي الذي عاشه وجعله ليس فقط رساماً كبيراً ناجحاً، بل أكثر من هذا رجل مجتمع وسلطة يكاد في هذين يدنو من موقع كبار رجال الأعمال في زمن كان رجال الأعمال يشغلون فيه مكانة متقدمة في المجتمع. غير أن أولئك الذين كانوا يتحدثون عن ديلاكروا بمثل هذه العبارات، إما حسداً أو إعجاباً أو حقداً وضغينة في معظم الأحيان، فاتهم أن ديلاكروا، كان واحداً من أبرز مؤسسي التيار الرومانسي في الفن الفرنسي في زمنه. وأن من علامات الرومانسية شعور صاحبها الدائم بالتعاسة، وبأن الحياة لم تعطه أبداً بقدر ما أعطاها، أو على الأقل بقدر ما كان يأمله منها. رومانسياً كان ديلاكروا بالتأكيد في أعماله، وفي كتاباته، ناهيك بأنه من المؤكد كان كذلك في جانب من جوانب حياته وشخصيته. والحس الرومانسي، لئن كان يعني التعبير عن شيء من الكآبة في النصوص المكتوبة في شكل مذكرات أو رسائل أو حتى ملاحظات عابرة، فهو في اللوحات كان يعني أكثر من ذلك بكثير: كان يعني رسم مشاهد مستقاة من التاريخ، ومن الأدب، ومن الحياة المعاصرة - منظوراً إليها عبر منظار مبتعد يعتبرها جزءاً من حركة الروح - ومستقاة كذلك من الأسفار. ولقد رأينا دائماً في كل ما نعرفه وعرفناه عن هذا الرسام كيف أنه، هو الذي كان من أوائل الرسامين الفرنسيين الذين زاروا شمال أفريقيا واستوحوا مشاهد منها، كما استوحى أضواءها وألوانها، جعل رسمه لمشاهد الحياة في الجزائر والمغرب، في خلفية بعض أجمل لوحاته. ترى هل كان استيحاء ديلاكروا للشرق هياماً به كما يوحي كثر من كاتبي سيرته ودارسي أعماله؟ ليس بالتحديد. فالزمن الذي عاش فيه ديلاكروا وسافر ورصد ورسم كان سابقاً بقرون عديدة على ذاك الذي كان فيه ماتيس أو كلي أو أوغست ماكيه، أو بخاصة أوجين فريمانتون و «الحاج نصر الدين» (إيتيان دينيه) يذهبون إلى الشرق - بما فيه الشمال الأفريقي - سعياً، فقط، وراء العناصر الشكلية والمواضيع الغرائبية.> زمن ديلاكروا، كان لا يزال زمناً إيديولوجياً، تهيمن عليه ذكريات الحروب الصليبية، إلى حد ما، ولكن في ضوء الصراع الذي كانت تخوضه بعض شعوب أوروبا الشرقية للحصول على استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية. وإذا قلنا هنا أن ديلاكروا الفرنسي، إن كان قد تأثر بأمر، فإنه تأثر خصوصاً بالأدب الإنكليزي وبخاصة بالكاتب المسرحي الكبير الذي تعرّف على أعماله عن كثب ورسم العديد من اللوحات المتأثرة بمشاهد لافتة من مسرحياته، ولعل من أشهر لوحاته في هذا المجال لوحة «هاملت وهوراسيو في المقبرة»، كما أنهى تأثر بعدد من معاصريه الإنكليز أيضاً وفي مقدمهم الرسام كونستانل، والشاعر بايرون. وإذا كان بايرون ناصر ثورة اليونانيين ضد الاحتلال التركي، فإن ديلاكروا كان لا بد له أن يتأثر بذلك. وهكذا ستظل لوحته «مجزرة خيوس» واحدة من أفضل أعماله وأقساها.> عندما رسم ديلاكروا «مجزرة خيوس» كان شاباً متحمساً، فهو عرض هذه اللوحة في «الصالون» الذي كان يشارك به للمرة الثانية في عام 1824، وكان بعد في السادسة والعشرين من عمره، متمرداً غضوباً واقعاً مباشرة تحت تأثير أشعار بايرون ومن هنا ما نلاحظه في هذه اللوحة - التي تعتبر من أشهر لوحات ديلاكروا -، من وضوح في التحديد الإيديولوجي فالضحية واضحة هنا وكذلك الجلاد!.> ولكن بعد ذلك بست عشرة سنة، وكان قد أضحى ناضجاً وأقل حدة، سيعوّض أوجين ديلاكروا، على ما بدا منه من حدة في «مجزرة خيوس»، في شكل سيرى كثيرون أنه إيديولوجي السمات أكثر مما ينمّ عن هدوء لديه. أما هو فإنه ردّد كثيراً أن هوية الجلاد والضحية لم تكن ما يهمه هذه المرة. هذه الهوية كانت في هذه اللوحة الجديدة التي نتحدث منها، محض صدفة، ولنوضح: في عام 1840 حقق ديلاكروا لوحة «دخول الصليبيين إلى القسطنطينية» كمشهد تاريخ مستقى من أحداث قرأ عنها وكان يعرف أن الحديث عنها، عبر رسمها، يؤثّر في الجمهور. هنا، ثمة أيضاً جنود منتصرون، وثمة ضحايا يُقتلون، وهم أهل المدينة وجنودها المدافعون عنها، من البيزنطيين الذين كانت القسطنطينية عاصمتهم زمن الحروب الصليبية. وهكذا، في مقابل «إجرام الأتراك وقسوتهم» ومقابل «فرحهم المنتشي بقتلهم الثوار اليونانيين، ولا سيما النساء والأطفال منهم» في اللوحة السابقة، ها هو الرسام يصور هنا في اللوحة الجديدة، الأسى والرحمة على وجوه الجنود الصليبيين المنتصرين. وإذ نقارن بين «مجزرة خيوس» و «دخول الصليبيين إلى القسطنطينية» يطالعنا فوراً ما هو إيديولوجي، أي ما كان من شأنه أن يؤخذ على الرسام. في اللوحة الأولى، الحرب تبدو وكأنها مجرد مذبحة ينفذها مجرم بدم بارد، لا يعنيه من الضحايا شيء. غايته القتل للقتل. أما في اللوحة الثانية، فالقاتل - الجندي الصليبي - يبدو معنيّاً بما يفعل. في ملامح الجنود في شكل عام، شيء من الندم، وكأن تلك الملامح تقول لنا إن هؤلاء الجنود إنما كانوا مجبرين على اقتراف ما اقترفوا. ولنلاحظ هنا أن الحرب في الحالتين كانت ذات سمات دينية واضحة، لكنها في حالة «الصليبيين يدخلون إلى القسطنطينية» كانت مذهبية، أي بين مسيحيين ومسيحيين ينتمي كل فريق منهم إلى مذهب مخالف للآخر، فيما كانت الحرب في حالة «مجزرة خيوس» بين الأتراك المسلمين واليونانيين المسيحيين.> فهل كان ما عبّر عنه ديلاكروا مجرد حقيقة تاريخية، همّها في الحالتين إدانة الحرب كفعل قتل لا يذهب ضحيتها سوى الضعفاء والأبرياء، أم أن اختياره كان إيديولوجياً؟ ليس من السهل الإجابة عن سؤال كهذا. ولكن لا بد من القول إن ديلاكروا كان خلال المرحلة الزمنية الفاصلة بين تاريخ رسمه اللوحتين، قد تعرّف إلى الشرق عن كثب، وأغرم به، ورسم الكثير من مشاهد الحياة فيه، انطلاقاً من افتتان بعالم الشرق والإسلام، لم يحاول أن يخفيه. ومن هنا قد يجدر بنا أن نفرّق تماماً بين رأي ديلاكروا في العنف والقتل - خلال الحروب - وبين رأيه في الإسلام والشرق عموماً. ترى هل يذكّرنا هذا بشيء يحدث في أيامنا هذه؟ وهل علينا أن نقول إن من يوجه ديلاكروا الإدانة لهم في الحالتين، إنما هم المقاتلون، ممتشقو السلاح وقتلة الأبرياء... لا أكثر؟> تمثل لوحة «دخول الصليبيين إلى القسطنطينية» نقطة ذروة في عمل ديلاكروا، كما في أسلوب التلوين و»الميزانسين» لديه، وتمثل كذلك نقطة الذروة في تعاطيه مع المشاهد التاريخية، هو الذي كانت هذه المشاهد تشكل عنصراً أساسياً في لوحاته.> ولد أوجين ديلاكروا عام 1798 في سان - موريس غير بعيد عن باريس، وقيل دائماً إنه كان الابن غير الشرعي للوزير تاليران، على رغم أن أمه، حين ولد، كانت متزوجة بموظف متواضع المكانة يدعى شارل ديلاكروا، أعطى الولد اسمه. مهما يكن من الأمر فإن ديلاكروا لم يستفد أبداً من «أبوة» تاليران له، بل عاش حياة عادية تميّزت في بداياتها بشغفه بالآداب والفنون. وهو بدأ يتعلم الرسم باكراً، كان في الثالثة والعشرين حين رسم لوحة «دانتي وفرجيل» التي عرضها في صالون عام 1822، وكان لها تأثير كبير في الجمهور، ما جعله يعود إلى الصالون بعد عامين بلوحة «مجزرة خيوس» التي رسمها متأثراً بقصيدة بايرون، وكذلك بلوحة لكونستابل كانت معروضة في الصالون السابق. ومنذ ذلك الحين صار ديلاكروا أحد أعلام فن الرسم في فرنسا. وهو رسم لوحات تاريخية، وصوراً لأصدقائه الفنانين، ومن بينهم شوبان وجورج صاند، كما رسم مشاهد صيد وغابات وصراعات مع الحيوانات. وزار شمال أفريقيا ورسم لوحات شرقية من أشهرها تلك التي تمثل سلطان المغرب، و «نساء الجزائر» اللتان تعتبران من أشهر لوحاته «الشرقية». إضافة إلى «عرس يهودي في الجزائر» وطبعاً، لوحته الأجمل والأشهر «نساء الجزائر». ومات ديلاكروا في عام 1863، وكان لا يزال في قمة نشاطه.
* ابراهيم العريس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق