بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 أكتوبر 2015

حبر وملح... ماذا نكتب؟

حين يكون الإرثُ عظيماً ينوء الوارث بثقل ما يرث، وبعض الورثة لا يدرك أحياناً قيمة ما ورِثَ فنراه يبدده في فترة وجيزة. هذه الحالة تصح في الميراث المادي مثلما تصح في الميراث المعنوي، الثروة ليست فقط مالاً ومصاغاً ومساحات من الأرض أو البناء، الثروة علم ومعرفة وإبداع وثقافة وسواها من عناوين تتباهى بها الأمم وتفاخر. في دنيا العرب قد يكون الشعراء هم أكثر مَن يرزح تحب عبء أسلافهم، لا لِعيب في الأسلاف وفي ما تركوه، بل لِعظمة ما تركوا. الشعر العربي ميراث نفيس فيه من الكنوز الإبداعية
ما لا يُقدَّر بثمن، سطوة هذا الشعر العظيمة جعلت كل محاولة للخروج من تحت عباءته محكومة بالفشل أو بالاتهام. الذين قلّدوا الأسلاف حكموا على أنفسهم بالفشل المسبق، المقلِّد مهما أوتي من براعة لن يبلغ مرتبة المقلَّد. الذين غامروا وجازفوا بالبحث عن أشكال جديدة للكتابة الشعرية نالهم من الإتهام ما بلغ حدَّ التخوين وشُبهة تخريب لغة الضاد، وهي كما تعلمون لغة الوحي والقرآن الكريم.

لو كان ميراثنا من الشعر عادياً أو رديئاً لَسَهُلَ علينا الخروج عليه وتجاوزه، لكنه على هذا القدر من الرفعة والسمو، من الإمتاع والمؤانسة، من السحر والغواية، والى هذا الحد نابعٌ من صميم الحياة اليومية لأسلافنا ومعبِّراً عنها، مسطراً بطولاتهم وفروسيتهم ومعاركهم ووقائع عيشهم وقصص عشقهم. ولأنه ديوانهم كما قالت العرب، كان ولا يزال من الصعب البناء فوقه لأنه عمارة شاهقة ينبغي لكل مَن يرغب بالإضافة اليها الإرتقاء أولاً الى مستواها، وهذا ما لا تقوى عليه الا قلّة قليلة ونادرة، وكذلك الحال لمن يريد الفكاك منها ومن قواعدها وبحورها وأوزانها، عليه بناء عمارة جديدة لا تقل متانة ورسوخاً وارتفاعاً من العمارة التقليدية. ولأن شعرنا العربي العظيم راسخٌ رسوخ الجذر في تربته وملتصق بذاكرة أهله التصاق اللحم بالعظم كان الشعر الحر أو ما عُرِف بقصيدة النثر أمام تحدٍّ هائل وبالغ الصعوبة، ما جعله يواجه حتى اليوم، وبعد مضي أكثر من خمسة عقود على بداياته، تهمة المروق والعقوق ويتم التعامل معه من قِبل كثيرين بوصفه لقيطاً لا حق شرعياً له في الميراث.
لا يغرنَّك ما تعيشه لغة الضاد الآن من يُتمٍ على يد أبنائها، ولا ما يصيب الشعر من شحوب واصفرار. هذه حقبة انحطاط لا بد زائلة. عَظَمة ما قاله الأسلاف شعراً تجعل مهمة الكتابة الشعرية أكثر صعوبةً ولكن أكثر إمتاعاً. ماذا نكتب؟ وهل ترك لنا أجدادنا الشعراء ما نكتبه؟ نافلٌ أنهم كتبوا كل شيء، الولادة والموت وما بينهما، لكن التحدي أمامنا هو كيف نقول ما قالوه بطريقتنا وبلغة وأساليب تناسب نمط حياتنا، وتُبقِي للأجيال تَركةً نفيسة يباهون بها العالم كما نفعل نحن الآن بِتَركة أسلافنا الشعراء. المهم، برأينا، أن نكون أنفسنا ونكتب ذواتنا فكلما اقترب الشاعر من ذاته كلما اقترب من ذات الآخر. جميعنا تقريباً نفرح للأمور ذاتها ولها نحزن، لذا كلما كان الشاعر صادقاً مع نفسه كلما أمسى لسان حال كثيرين، ولئن قالت العرب أعذب الشعر أكذبه، فمن باب الغلو والمبالغة، قد يحق للشعر أن يكذب كذباً أبيض لمضاعفة الجمال والسحر والغواية، لكن ثمة فارقاً كبيراً بين أن يكذب الشعر وأن يكذب الشاعر(!)، كذب الشعر محمود أما كذب الشعراء فمذموم.
كلُّ شاعر على ثقة بأن لديه جديداً ما يقوله أو يضيفه، لولا هذا الاعتقاد لما كتبَ أحدٌ حرفاً. الثقة ضرورة للكاتب، لكن مسألة التجديد والإضافة من عدمها متروكة للزمن الكفيل بالغربلة. مَن يعرف حقاً كم شاعراً كان زمنَ المتنبي ونظرائه؟ البقاء للأشعر. هذا ما تُعلِّمنا إياه الأيام، علينا أن نكتب الحياة والموت وما بينهما على طريقتنا، نبتكر مقاربات جديدة لشؤون الحياة وشجونها، وكلما كان النص نابعاً من الذات بصدق وشفافية حمل في داخله بذرة بقائه واستمراره عبر الزمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق