بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 25 أكتوبر 2015

◘ «عار وسط الذئاب» لبرونو آبيتز... كان هناك دائماً ضحايا آخرون

على رغم أن كل التواريخ الرسمية للحرب العالمية الثانية، وتواريخ الفظائع التي ارتكبتها الجيوش الألمانية تحت سلطة النازيين خلال تلك الحرب، تحدثت خلال العقد الذي تلا تلك الحرب عن أن ضحايا النازية، من المدنيين بخاصة، في البلدان التي احتلّتها جيوش هتلر، كانوا من فئات عدة، من ديموقراطيين وأناس عاديين وغجر ويهود وكاثوليكيين وغيرهم، ناهيك بالشيوعيين الذين كانوا في كل بلد من البلدان المحتلّة، أول الضحايا قتلاً ونفياً واعتقالاً، فإن ذلك كله امحى، بقدرة قادر، خلال المرحلة التالية
ليتركز الحديث فقط على اليهود الذين اضطهدهم هتلر، وكانوا في الواقع يعدون بالملايين ويكادون أن يشكلوا جزءاً كبيراً من اليهود القاطنين أوروبا، لا سيما ألمانيا نفسها وبولندا والمجر وغيرها، بحيث سرعان ما نُسي كل الضحايا الآخرين لحساب التركيز على الهولوكوست (المحرقة اليهودية)، وبالتالي تصوير الحرب العالمية الثانية، كلّها، بصفتها مجزرة نازية ضد اليهود.
> طبعاً ليس ثمة أي شك في أن اليهود عانوا كثيراً على أيدي النازيين... غير أن الواقع يقول لنا أنه كان ثمة، دائماً، ضحايا آخرون وأجناس أبيدت بكاملها. لكن للتاريخ نزواته... وكانت تلك من نزوات هذا التاريخ. ومع هذا كُتب أدب جمّ، ونشرت دراسات عدة وبحوث وإحصائيات... غير أنها كلها لم تصل الى القراء الذين كان ينبغي أن تصل إليهم، لمجرد أنها كانت تركز على تنوّع ضحايا هتلر، وبالتالي أُسدل ستار من الصمت على ملايين الضحايا، بل ثمة بلدان امتنعت عن الاحتفال بذكراهم على مستوى قومي كي لا تغضب إسرائيل أو اليهود، حيث كانت تهمة «العداء للسامية» و «التفريط في حق اليهود» جاهزة دائماً. والأكثر إيلاماً من هذا، هو أنه حين كانت مثل تلك الدراسات أو البحوث تنشر، كان القراء أنفسهم يستنكفون عن قراءتها على نطاق واسع، لأنها كانت... بالنسبة إليهم، أشبه بالالتفاف على حق «الضحايا الحقيقيين». غير أن هذا كله لم يمنع، لا سيما داخل بلدان ما كان يسمى بـ «الستار الحديد» في ذلك الحين، من انتشار أعمال أدبية تقول شيئاً آخر غير السائد. أو تقول، بكل هدوء وتواضع، أن الكل كان من ضحايا هتلر ونازييه.
> من هذه الأعمال، رواية تبدو الآن منسيّة بعض الشيء، كما أن كاتبها نفسه يبدو بدوره منسياً، لا سيما أنه رحل عن عالمنا، وبدأ اسمه ينطفئ في زمن كانت الأحداث الكبرى تغزو العالم، وكذلك في وقت كانت الدعاية الصهيونية والإسرائيلية، من طريق الصحافة والكتب والسينما وشتى فنون توصيل الأفكار، سيطرت تماماً على كتابة تاريخ تلك المرحلة، بحيث أن أيّ كلام - مخالف ومهرطق - كان يدمغ بالتحريفية. والرواية التي نذكرها قد لا تكون كلية المخالفة والهرطقة، لكنها لم تكن ولن تكون أبداً من النوع الذي يستسيغه محتكرو المحرقة. الرواية عنوانها «عار وسط الذئاب» وكاتبها اسمه برونو آبيتز، وهو كاتب ألماني لم تشتهر له على أية حال أعمال أخرى كثيرة، بحيث كادت «عار وسط الذئاب» تُعتبر عملاً وحيداً له. فعمَّ تتحدث هذه الرواية، ولماذا أحيطت بالتكتّم في الغرب على رغم أنها تُرجمت الى لغات عدة؟
> تتحدث ببساطة عن آخر أيام النازية، لكن منظوراً إليها من داخل معسكر الاعتقال في بوخنفالد في ألمانيا، الذي كان يعتبر من أكثر معسكرات الاعتقال تنوعاً «سكانياً» وأهمية، لأنه المكان الذي حشد فيه النازيون، ومنذ ما قبل اندلاع الحرب، السجناء السياسيين، من مثقفين ومناضلين حزبيين مناهضين للسياسة الهتلرية. فهذا المعسكر الواقع غير بعيد من فايمار وتورنغي، افتتح منذ العام 1937، وشكّل جحيماً بالنسبة الى كل مثقف أو فنان أو مناضل يجرؤ على أن يتلفّظ بكلمة تعترض على سياسات هتلر. وهكذا خلال السنوات الفاصلة بين افتتاح المعسكر، وانتهاء الحرب في العام 1945، راح عدد «السكان» في بوخنفالد يزداد تدريجاً، حتى وصل الى نحو خمسين ألف معتقل قبل أن تحطّ الحرب أوزارها. ومن هنا، حين اعتقل الكاتب برونو آبيتز الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الألماني، منذ العام 1933، وضع في بوخنفالد، حيث بقي ثمانية أعوام، حتى حرره وصول السوفيات والأميركيين الى المكان إثر إلحاقهم الهزيمة بهتلر. لذا كان من الطبيعي للكاتب حين أراد أن يعبر عن تجربته في الحرب، أن يتحدث عن وجوده في المعتقل... لكنه آثر أن يقصر حديثه على ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة، حين راحت تتناهى الى المعتقلين أنباء هزائم النازيين، فيضعون كل آمالهم في وصول الحلفاء إليهم لتحريرهم. وكان من الطبيعي وسط ذلك الجو المشحون، أن تزداد شراسة النازيين... إذ، بداهة، حين يحشر الفاشي ويجد نفسه يعيش أيام بطشه الأخيرة، يزداد بطشاً وشراسة.
> كان نتيجة ذلك، بالطبع، أن تضاعف عدد السجناء الذين تتم تصفيتهم، يوماً بعد يوم. لكن، في المقابل، ازدادت رقعة الأمل لدى السجناء، وجلّهم من الألمان الشيوعيين والديموقراطيين والكاثوليك، حتى وإن كان جزء لا بأس به منهم، من اليهود... لكن من اليهود المعتبرين من أهل اليسار. بل إن الكاتب جعل رمز روايته ومحورها، ونقطة الأمل فيها، طفلاً يهودياً في الثالثة من عمره وصل داخل حقيبة مغلقة بعد أن تم إنقاذه من مذابح غيتو فارصوفيا. وهذه الحادثة حقيقية... أما آبيتز فإنه استخدمها واستخدم الطفل صاحب العلاقة فيها، كنقطة ربط بين أحداث جعل خلفيّتها تدور حول التنظيم الذي فرضه الأسرى الشيوعيون على الحياة داخل المعتقل، على رغم أنف النازيين، من أجل تسهيل العيش على الأسرى البائسين، ولكي يتمكّن كل واحد منهم من أن يحافظ لنفسه على حدّ أدنى من الكرامة الإنسانية. في البداية، يكون كل شيء هادئاً وروتينياً. لكن، إذ يتواكب وصول الطفل مع استشراء أنباء اقتراب الحلفاء، يتواكب عمل المناضلين، في السر للحفاظ على حياة الطفل، ونقله من مخبأ الى مخبأ بعيداً من أنظار الحراس النازيين الذين دروا بأمره وبدأوا يبحثون عنه للتخلّص منه. يتواكب هذا العمل مع العمل - السري أيضاً - للإعداد لانتفاضة داخل المعسكر، غايتها إعداد المكان لوصول الحلفاء والالتفاف على القوات النازية المرابطة هناك. والحقيقة، أن الجزء الأكبر من صفحات الرواية يضم مشاهد رائعة حيوية ومملوءة بالتفاصيل يصف فيها المؤلف، ميدانياً، كيف كان يتم ذلك كله في الوقت نفسه: تهريب الأسلحة، إخفاء الطفل، تنظيم الحياة اليومية، الاتصال بالخارج، الحصول على الأخبار، تأمين المؤن... وهذا كله في عمل دؤوب ومنظم قاده شيوعيو المعتقل كما يؤكد الكاتب، الذي كان هو نفسه، في حياة الاعتقال يقوم بقسم كبير من الأعباء التي يصفها في الرواية. وفي مواجهة هذا، يصف لنا الكاتب كل ضروب التعذيب والاغتيال التي راح يتعرض لها المناضلون، فتزداد حدتها كلما اقترب الحلفاء كما أشرنا.
> أما الصفحات الأجمل والأقوى في الرواية فهي الأخيرة، على رغم امتلائها بالتوتر والقتل... ذلك أن الأمل خلالها كان بدأ يكبر في صورة جدية، بل كاد خلالها نشاط المناضلين يصبح شبه علني، على رغم كل العقبات. وهذا كله وسط خضم القلق والتساؤلات، لا سيما في ما يتعلق بالقضية المحورية: متى علينا أن نعلن تمرّدنا ونبدأ النضال العلني المسلّح؟ إن طرح مثل هذا السؤال هو الذي مكّن الكاتب من أن يقدم هنا صورة بالغة القوة لمسؤولية مناضلين مثاليين، يعرفون على رغم حماستهم، كيف يعون الأخطار ويدرسونها، إنما من دون أن يحبطوا الوصول الى هدفهم... كما أن الكاتب عرف كيف يعود دائماً وبين فصل وفصل الى الطفل/ الرمز، وقد راح ينتقل من يد الى يد في وتيرة يتزايد إيقاعها أكثر وأكثر. ولعل أجمل ما في هذه الرواية الفريدة، هو أن البطولة المطلقة فيها ليست لأحد: فالكل هنا هو البطل. والطفل هو الرمز، إشارة الى العالم الجديد الذي سيولد من رحم تلك الفظاعات، ووسط مجتمع صغير/ كبير، تحكمه نوعية عرقية وفكرية ولغوية تبشّر بقيام عالم الإنسان غداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق