بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 أكتوبر 2015

◘ قانون مكافحة التجهيل العمدي

في حياتي القادمة، إن كان ثمة تناسخُ أرواح، وإن حدث وغدوتُ ملكةً أو رئيسةَ دولة، أو مُشرّعة قضائية مثلا، سأصكُّ قانونًا حازمًا حاسمًا ناجزًا لا ثغرات به، يُعتقَلُ بموجبه كلُّ مَن يُروّج مغالطات علمية مُضلّلة، أو يُطلق معلومةً معرفية مغلوطة؛ فيصدقها الناسُ، وتتداولُها الألسنُ، وتصيرُ حقيقةً بين العامة، وما هي إلا هُراءٌ وبلاهة وجهالة! 
سأسميه قانون: "مكافحة التجهيل العمدي". فأن تكونَ جاهلاً، لا بأس، فكلُّنا جهلاءُ نتعلم حتى نموت؛ أما أن "تُجهِّل" الناسَ قسرًا، فتلك جريمة، تستوجبُ العقاب! من السخف أن تطالب بسجن مَن سرق من جيبك 100 جنيه، ولا تُجرّم سارقَ عقلك!
سأفتتحُ معتقل "سجناء التجهيل العمدي"، بذلك الرجل، "حرامي العقول" الذي قال بجهل وتبجّح: "الليبرالية يعني أمّك تمشي من غير حجاب"! وصديقه الذي ادّعى جهلا وكذبًا أن العلمانية كفرٌ وإلحادٌ وشذوذ، أعوذ بالله مما يصفون! 
وفي المعتقل، سوف نعامل النزيلَ معاملةً كريمة للغاية: 1- نمحو أُميّته، 2- نعلّمه كيف يفتح الموسوعات ليستخرج معلومةً أو تعريفًا لمصطلح ما، 3- وقُبيل إطلاق سراحه، "نقرص" أُذُنه ونقول له: "عيب تتكلم في اللي مبتفهمش فيه! لو مش عارف إسأل، ولكن إياك وتجهيل الناس، مفهوم؟!" 
‫-;-جريمته النكراء مرّت دون عقاب، فأتت ثمارَها العطنة، ليس فقط لدى البسطاء العامة من غير المتعلمين، بل كذلك لدى صُناع العلم واضعي الامتحانات للطلاب!
تصوّروا أن يأتي سؤالُ التعبير بإحدى المدارس في عهد الإخوان التعس:"اكتبْ حول ما تقوم به الأحزاب الليبرالية والعلمانية من دور فاسد فى المجتمع"! أيُّ عبثٍ بعقول النشء! خصوصًا في مجتمع نَقليّ سمعيّ ينتهج ثقافة: "قالوا له"؛ وليس لدى مواطنيه "وقتٌ" ولا "مِزاج" للقراءة وتحصيل المعرفة من مصادرها الصحيحة! فيُسلِّم أُذُنيه لأقرب لسان يهرف بما لا يعرف. 
الليبرالية هي مذهبٌ سياسيّ يُعلي قيمَ العدالة والحرية والمساواة، واحترام حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد: "مَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر". الليبراليةُ تنتصرُ لسيادة القانون ودستورية الدولة. الليبراليةُ تنتصرُ للإنسانية دون تمييز عِرقيّ ولا طبقيّ ولا عقائديّ ولا أيديولوجيّ. الليبراليةُ نقيضُ الشِّللية والطائفية والحزبية والقِبَليّة. لأن احترامَ الإنسان، كإنسان، هو قمّةُ الترقّي على سُلَّم التحضّر. وأما العلمانية فهي أن تقفَ الدولةُ دون تحيّز على مسافة متساوية من الأديان كافة. فلا تميّزُ طائفةً على طائفة في الحقوق أو الواجباب. فالكل أمام القانون سواءٌ. هنا يقول هنري برجسون: "الإنسانُ العادي ميالٌ بطبيعته إلى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها. أما العبقري فيشعر أنه ينتمي إلى البشرية جمعاء، ولذا فهو يخترق حدودَ الجماعة التي نشأ فيها، ويثور على العُرف الذي يدعم كيانها .إنه يخاطبُ الإنسانية كلها بلغة الحبِّ." الليبرالية هي ما فعله ڤ-;-ولتير‫-;-عندما صادرت السلطاتُ السويسرية كتاب "چان چاك روسّو"، وأمرت بإحراقه؛ فقال ڤ-;-ولتير لروسّو: "أنا أختلف مع كل آرائك، على أنني أدفع عمري دفاعًا عن حقك في حرية التعبير عن أفكارك‬-;-." 
والحقُّ أن من يهاجمون الليبرالية لا يهاجمونها لفسادٍ فيها، لأن كلَّها خيرٌ وعدلٌ وتحضّرٌ ومدنيةٌ. إنما هم يهاجمون تصوّرهم الخاطئ عنها. فقط لأنهم لا يعلمون. أو يعلمون ويزيّفون لكي يضللوا الناس، وهنا المصيبةُ أعظمُ. في هذا يقول أدونيس، الشاعرُ والمفكرُ السوري الكبير: "أنت لا تكرهني أنا، أنت تكره الصورةَ التي كوّنتها عني، وهذه الصورةُ ليست أنا." وبالمنطق نفسه نقول لهم أنتم لا تكرهون الليبرالية ولا العلمانية، بل تكرهون الصورة المشوّهة التي رسمتها أذهانُكم عن المذهبين النبيلين. وهذا شأنكم، فأنتم أحرارٌ في أن تقبلوا أو ترفضوا ما تشاءون. ولكنم لستم أحرارًا في تشويه معارف الناس وسرقة عقولهم. طاردوا من يسرقون عقولكم، واطردوهم من أدمغتكم واعتقلوهم في سجن لصوص التجهيل العمدي. ابحث عن المعلومة بنفسك من مصادرها. فالموسوعات تنتظرك على أرفف المكتبات. ابنِ عقلك من متون الكتب المحترمة، حتى لا تكون ابنَ الثقافة السمعية التي دمّرت بشرًا وخرّبت مجتمعات وأفنت حضارات بأكملها. العلم والمعرفة والثقافة والتنوير هي الحل .
* فاطمة ناعوت 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق