بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 أبريل 2016

«أنا السلام في الحرب» لإيفان الرهيب: الحاكم يحلّل طفولته

لكلّ إيفانه: للروس القيصر إيفان الذي مهما كان قاسياً وجباراً، كان هو من أسس الإمبراطورية وأرسى حدودها الأولى بدايةً لتوسعها في كل الاتجاهات. وللغرب إيفان الذي تحدث عنه المخرج السوفياتي سيرغاي ايزنشتاين في آخر فيلمين حققهما واحتارت السلطات الستالينية فيهما: تسمح بعرضهما أو تمنعه، علماً أن الأموال التي صُرفت على الفيلمين أموالها. مهما يكن من أمر، فإن فيلمي ايزنشتاين عرضا في الخارج واعتبرا من الناحية السينمائية ذروة في عالم السينما التاريخية و... الأيديولوجية أيضاً. وذلك لأن أحداً من النقاد، وربما من المتفرجين ايضاً، لم يسه عن باله أن إيفان، في سينما ايزنشتاين، ليس آخراً سوى ستالين وقد أجريت عملية إسقاط وتماه شديدة الوضوح بين الماضي والحاضر. بيد أن المخرج السوفياتي لم يوجه في الحقيقة أية إدانة الى قيصر الأيام الغابرة وبالتالي الى قيصر الأيام الحاضرة. إذاً، نحن هنا أمام صورتين لإيفان. لكنهما ليستا كل صوره. فهناك صور تاريخية عديدة. غير أن «الأفضل» والأكثر شهرة في بلاد الموسكوف تبقى الصورة التي رسمها صاحب العلاقة نفسه لنفسه، وذلك في كتاب يتم تداوله في شكل متفاوت في الداخل الروسي بين الحين والآخر، ووفق الظروف، وبدأ منذ فترة يترجم الى اللغات الأخرى، ومنها الفرنسية (في العام 2012 فقط)، مع انه كتب قبل نحو نصف ألفية من السنين. وما كاتبه سوى إيفان نفسه. أما عنوانه فهو «أنا السلام في الحرب» والتوقيع: إيفان القاسي المعروف باسم إيفان الرهيب.

> مترجم الكتاب من الروسية القديمة (السلافونية)، ديمتري بورتنيكوف، يصف بنفسه النص على أنه، وفي آن معاً «رحلة مع مجنون وتجوال مع مجرم يسعى باحثاً عن براءته». غير أن الكتاب نفسه لا يضم نصاً بالمعنى المألوف للكلمة، بل ما يعتبر مختارات من رسائل كتبها إيفان (1530-1584) خلال مراحل متفرقة من حياته. ويفيدنا المترجم بأن إيفان اعتاد كتابة الكثير من الرسائل وأن أحداً حتى اليوم لم يتمكن من جمع رسائله كلها. فما الذي يمكن استخلاصه كصورة مباشرة من هذه الرسائل؟ ببساطة إن كاتبها الذي صاغها بتلك اللغة الخاصة التي كانت لغة رجال الدين في روسيا، كان عصامياً علّم نفسه بنفسه، وإن تحديثه لبلده، وكان هو مؤسسه الحقيقي، كان عملاً مقصوداً من جانبه هو الذي كان مأخوذاً بالنصوص المقدسة لا يتوانى عن الاستناد اليها في كل سطر أو فقرة من كتاباته. أما في ما عدا هذا، فإن إيفان المطل علينا من ساحق الزمن بواسطة تلك الرسائل، فشخص انفصامي بالمعنى الحديث للكلمة: من ناحية يسعى لتلمس كل ما هو جديد وعصري آت من أوروبا، أو من أي مكان آخر حتى ولو كان من عند أعدائه الأتراك، ومن ناحية ثانية حاكم عنيف يرى دائماً أن كل من يقف ضد سلطاته، إنما يعلن الوقوف ضد السماء وآلهتها. ومن يفعل هذا إنما هو مرتد بالتأكيد. والردّة أم الخطايا في نظره. وهو قال هذا بالتحديد كنوع من التبرير للمصير البائس الذي جعله من نصيب واحد من أقرب خلصائه الى قلبه الكونت اندريه كوربسكي. فهذا الأخير، اذ وجد القيصر أنه «يزيدها» في توجيه النصح اليه، اعتبره خائناً وأمر باعتقاله، فما كان منه إلا أن هرب الى بولندا. وطبعاً ليس مثال كوربسكي سوى واحد من ألوف المصائر. بل إن غضب إيفان امتد ليشمل حتى الملكة الانكليزية اليزابيث الثانية، التي كان يأمل ذات يوم بالاقتران بها، ليس لجمالها، بل لتوحيد طرفي اوروبا والهيمنة المزدوجة على القارة كلها، كما يبدو. لكنها حين رفضت، باتت بدورها «مرتدة» و «خائنة» كما يقول في إحدى رسائله.

> وعلى رغم تمسك إيفان بالدين وبتعاليمه بحذافيره، نراه في بعض رسائله يندد برجال الدين، ولا سيما منهم اولئك الذين تغريهم مكتسبات الحياة الدنيا، مبعدة اياهم عن العمل من أجل الآخرة. والحال ان المرء، حين يقرأ رسائل إيفان هذه، سيجد أنه وحده المحق دائماً وأن الآخرين كلهم على خطأ. وفي رسائله تبرير وتفسير لكل شيء يفعله، ولا سيما للجرائم التي لم يتوقف عن ارتكابها – والتي أمعن ايزنشتاين في الحديث عنها في فيلميه المذكورين -، غير أنه، بالطبع، لا يسميها جرائم، بل عقوبات، وهي من تلك العقوبات التي تتوافق على الدوام مع مشيئة الله. فهو يعتبر العناية الإلهية حليفته في مساره، والقوة العادلة التي تقود خطاه بل تمليها عليه. وفي هذا السياق، لا ينسى إيفان الإشارة – بل التأكيد مرات ومرات – الى أنه في استجابته للمشيئة الالهية، لا يحتاج الى رجال الدين يقولون له ما يفعل وما لا يفعل. بل على العكس، هو الذي يملي عليهم ما يتوجب عليهم أن يفعلوا!!

> والحقيقة أنه إذا ما حاول التحليل النفسي اليوم إخضاع شخصية إيفان لأيّ نوع من هذا التحليل، لن يجد، بعد قراءة الرسائل، أن هذا ضروري. وذلك بالتحديد، لأن الكاتب – صاحب العلاقة – أغنى قراءه عن ذلك، حيث نجده لا يتوانى، وفي مقاطع عديدة من الرسائل، عن العودة الى طفولته وصباه واصفاً المآسي التي عاشها خلالهما، ولا سيما حين فقد أباه وأمه وهو بعد، طفل، ما جعل «الدوما» – مجلس النواب – يتسلم السلطة مكانهما في انتظار وصوله الى السن التي تؤهله للحكم. ولقد برع ايزنشتاين، في أحد فيلميه، في وصف مشاعر إيفان الطفل عند تلك المرحلة، فهو بدا، وفق المترجم، «وحيداً يشعر بأنه وحش ضار... علماً أن بقاءه في رفقة ذاته وهو على تلك الحال، لم يكن يعني أبداً أنه في صحبة طيبة!».

> مهما يكن من أمر، فإن إيفان كتب بنفسه واصفاً طفولته خلال تلك السنوات الصعبة من حياته، في واحدة من رسائله قائلاً: «تراهم كم من أعيان هذا البلد من البويار قد قتلوا – والضمير هنا يعود الى رجال الدوما الحاكمين بالتأكيد – كم من صديق لوالدنا دقوا عنقه! لقد استولوا على ممتلكات أعمامنا موطدين مكانتهم فيها بوصفهم سادتها الجدد! صار العبيد أسياداً! أما الأسوأ من هذا فهو أن الكنوز البائسة التي كانت تعود الى والدتنا، كل ما كانت تملكه تلك التقية الورعة وهي حية – من جواهر، ومعاطف، وأثواب وكل شيء... كل شيء – سرقوه ونهبوه أمام أعيننا! سرقوه كما تفعل عصبة من الشياطين! لقد هرعوا ينهبون ملابس والدتنا ما إن أسلمت الروح، ما إن رحلت عنا، أنا وأخي... حين فعلوا ذلك كان جثمانها لا يزال دافئاً (...) لقد رأيت الكراهية بأم عينيّ، وعرفت الجوع الحقيقي! لقد عرفت فؤاد ذاك الذي أوقف عارياً أمام الجموع! ذاك الذي عُرّي أمام الناس والذي عُرّض لكراهية الناس ليس أحداً آخر غير أخي. وكان دوري في ذلك يسبق دوره! كنت طفلاً... وهذا الطفل الذي كنته، هذا الطفل الذي بقي حياً، لم ولن ينسى شيئاً من كل ذلك».

> واضح أن المرء لا يحتاج الى أكثر من هذه السطور ليفهم تلك الكراهية التي حملها إيفان طوال حياته لرجال السياسة، كما لرجال الدين الذين كانوا يساندونهم في اضطهاده واضطهاد أخيه. ولا يحتاج المرء الى أكثر من هذا، بالطبع، ليفهم المصير الذي جعله مؤسس روسيا، لأعدائه الذين كانوا قد حكموا بلده، في شكل موقت، ريثما يشب عن الطوق وليصبح هو الحاكم المطلق في ذلك البلد الذي عُرف شعبه بالعواطف الجامحة. من هنا لا يمكننا القول إن سلوك إيفان وهو على العرش، والمذابح التي اقترفها وضروب القمع التي مارسها لم تكن ناتجة من تلك البداية التي جعلته، وهو بعد طفل، يرى الكراهية ويعيش الجوع. يقيناً ان ايزنشتاين في فيلمه المزدوج أشار الى هذا كله بوضوح. ولكن من المؤكد أن هذا، اذ يوصف ويقال على لسان صاحب العلاقة، على لسان وبقلم القيصر نفسه، وقد استتبت له السلطة المطلقة، يبدو شيئاً آخر تماماً. ومن هنا ما قاله البعض من أن فيلمي ايزنشتاين سيبدوان أكثر قوة بكثير وأكثر منطقية بكثير، إن نحن شاهدناهما بعد أن نكون قد قرأنا ذلك النص النادر، الذي كتبه حاكم مطلق، لم يكن، مع هذا، في حاجة لأن يبرر أياً من أفعاله أمام أي كان. ومن هنا ربما يكون كتبه لنفسه محاولاً أن يزيح عن تلك النفس أية أحاسيس بالذنب قد يكون استشعرها وهو في قمة مجده وقوته، تجاه أفعال صحيح انه، ظاهرياً، اعتبرها خاضعة لمشيئة الله، لكنه كان يعرف في عمق أعماقه، أنها ليست أكثر من ثأر ذاتي لأفعال عاشها طفلاً... والأطفال غالباً ما يضخمون الأشياء...
* ابراهيم العريس - الحياة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق