بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 أبريل 2016

«بياتريس وبنديكت» لبرليوز: الموسيقى لشكسبير والعواطف للجمهور

تعتبر أوبرا «الطرواديون» للفرنسي هكتور برليوز، أحد أفضل أعماله في هذا المجال. وإذا كان لا يمضي موسم أوبرالي إلا وتقدّم فيه هذه الأوبرا في عرض جديد وإخراج متطور، فإن الفضل في هذا يعود الى دأب ذلك الفنان في اشتغاله عليها، دأب جعله ينفق عشر سنين من حياته في تلحينها، بحيث أنها تعتبر الأوبرا التي استغرق إنجازها
أطول فترة ممكنة. والأدهى من هذا، أن «الطرواديون» لم تكن من نوع الأعمال التي يتركها مؤلفها سنين ليعود إليها، ما يجعلها تستغرق ربما زمناً أطول، بل هي عمل لم يترك صاحبه الاشتغال عليه إلا ليعود إليه بسرعة. والنتيجة كانت رائعة طبعاً، حيث أن «الطرواديون» تكاد تكون العمل الموسيقي الأوبرالي الوحيد الذي يمكن به الفرنسيين أن يفاخروا على أعمال فاغنر الألماني، وأعمال فردي الإيطالي. بقي أن نذكر أن من أسباب بطء برليوز في إنجاز عمله الكبير هذا، المآسي التي حلّت عليه، عائلياً ومهنياً، منذ بدأ يلحّنه. وكانت المأساة الأولى موت زوجته وملهمته هارييت سيمثون في العام 1854، أي بعد سنة من بدء اشتغاله على «الطرواديون»، التي لم تنجز نهائياً إلا في العام 1863، غير أننا نعرف بالطبع أن برليوز، خلال السنوات العشر التي استغرقها العمل على سفره الفني الكبير هذا، لم يخلد الى الكسل، بل واصل العمل. بل إنه كتب في تلك الأثناء أعمالاً كثيرة، لعل أهمها أوبرا «بياتريس وبنديكت» التي قدمت للمرة الأولى في آب (أغسطس) 1862، والحقيقة أنه كان من شأن برليوز أن يهدي هذا العمل الى زوجته الأولى هارييت، لولا أنها كانت ماتت قبل زمن، وكان منذ موتها تزوج امرأته الثانية التي لم يكن من شأنها أن ترضى بأن يحيي زوجها، بتلك الطريقة الفنية ذكرى «ضرتها» الراحلة. ومع هذا، لا يمكن أحداً نكران فضل هارييت، فهي التي كانت أول من شجّع برليوز على اللجوء الى النصوص الشكسبيرية في ابتكار أوبراته، بل حتى الى السير على خطى شكسبير، حين يتعين عليه أن يؤلف أوبرات لا علاقة لها بنصوص صاحب «روميو وجولييت». وإذ نذكر هذا، لا بد من الإشارة هنا الى أن أوبرا «بياتريس وبنديكت» لبرليوز هي، في الأصل، ملحنة انطلاقاً من نص شعري مقتبس عن مسرحية «أسمع ضجة ولا أرى طحناً» لشكسبير نفسه. وكان الموسيقي الفرنسي الكبير قد استبقها بأوبرات عدة أخرى مقتبسة من شكسبير («الملك لير»، «كليوباترا»، «روميو وجولييت»...)، ولحنت كلها بتشجيع وإلهام من هارييت التي كان برليوز قد كتب من وحي حبه لها، قبل ارتباطهما، عمله الكبير «السيمفونية الغرائبية» ذات العنوان الثانوي «حلقات من حياة فنان» (1829).
> إذاً، ها نحن أولاء، هنا، أمام «بياتريس وبنديكت» التي لا تعتبر فقط آخر لقاء بين برليوز وشكسبير، بل كذلك آخر عمل كبير كتبه الموسيقي، بالتزامن مع «الطرواديون»، قبل رحيله، ولعل الغريب في أمر «بياتريس وبنديكت» كون برليوز قد كتبها، خفيفة ظريفة، على رغم معاناته في تلك المرحلة من حياته، وعلى رغم فقره ويأسه من كل شيء. وتقول سيرته، على أي حال، أنه كتبها مثلما كان يكتب وينشر في ذلك الحين مقالات ودراسات نقدية حول الموسيقى والموسيقيين في شكل عام، انطلاقاً من حاجته الى المال من ناحية، ومن ناحية ثانية من أجل شحذ همته وذاكرته الفنية لإنجاز «الطرواديون».
> كما أشرنا، اقتبس برليوز «بياتريس وبنديكت» من مسرحية هزلية لشكسبير. لكنه، لمحدودية العمل الموسيقي الأوبرالي في مجال استيعابه الأحداث والشخصيات، رأى أن من المناسب أن يتخلّى عن أحداث جانبية وعن شخصيات غير ذات أهمية فائقة في النص الأصلي، ليركز على الحبكة الأصلية التي رآها ذات قدرة على خلق تلك الأجواء الميلودرامية والمرحة التي يحتاجها عمل من هذا النوع، يرضي الجمهور العريض من ناحية (ما يدّر عليه بعض المال الذي يقيه العوز لفترة ولو يسيرة)، ومن ناحية ثانية يمكّنه من استعراض قدراته الفنية الخاصة في مجال غير معتاد بالنسبة إليه.
> تدور أحداث الأوبرا، كما أحداث المسرحية، في مسّينا الإيطالية، لكن هذه المرة خلال القرن السابع عشر. وتبدأ الحكاية مع الحاكم دون بدرو، الذي يعود منتصراً من حملة عسكرية كان قام بها لتوطيد سلطته. وها هو إذ يعود يستقبل كبطل الأبطال من جانب شعبه الذي يحمله على الأكف ويهلّل له. وبين جموع المستقبلين، هناك هيرو، ابنة الدون بيدرو، وابنة أخيه بياتريس. بالنسبة الى هيرو، لا تعني العودة، فقط، عودة أبيها الحبيب، بل كذلك عودة حبيبها وخطيبها كلاوديو الذي يرافق الحاكم في معاركه... لذا، فإن سرورها مزدوج. في المقابل، صحيح أن بياتريس مسرورة بعودة عمها، ومعه بنديكت الذي تشير الدلائل الى أنه يمكن أن يكون حبيباً وخطيباً لها، لكنها تبدي عدم الاهتمام به، إذ تجده «حربجيّ» المزاج أكثر مما يجب. ومن هنا، تحاول تجنّبه. في ذلك المساء نفسه، يجب أن يتم الاحتفال بزواج هيرو من كلاوديو، لكن بنديكت يعلن أنه لن يحضر حفل الزواج، إذ إنه من ناحية غاضب، ومن ناحية ثانية يرى أن المحازبين الحقيقيين لا يخلق بهم أن يرقصوا ويشربوا في وقت تكون روحهم لا تزال معلّقة بالقتال. هنا، وعلى سبيل السخرية من بنديكت ومن أفكاره وربما أيضاً محاولة لتبيان مدى نفاقه وغيرته - يهمس الأصدقاء في أذن هذا الأخير أن بياتريس تبدو كأنها مهتمة به... أو لعلها مغرمة به. ولاستكمال هذه اللعبة، يذهب الأصدقاء أنفسهم الى بياتريس كي يهمسوا في أذنيها أن بنديكت مغرم بها، وأن هذا الغرام الصامت وشبه اليائس حتى الآن هو الذي يجعله غير راغب في حضور حفل زواج هيرو وكلاوديو. ويحدث هنا، ما لم يكن متوقعاً أول الأمر: يقع بنديكت وبياتريس في فخ ما رسمه لهما الأصدقاء، ويهيم كل منهما بالآخر. وهذا ينقلنا الى الفصل الثاني من الأوبرا، حيث فيما يكون حفل زفاف هيرو وكلاوديو قائماً، يصرح كل من بنديكت وبياتريس للآخر بحبه، ما يظهر بسرعة عليهما ويثير بالتالي حذر الأصدقاء الذين يسعون بسرعة وبجدية الى تذكير العاشقين الجديدين بأن الأمر ليس سوى مزحة ولعبة. لكن، هل يهم هذا كثيراً الآن؟ لقد انقلبت اللعبة حقيقة، وها هو الحب يجمع اللذين كان التنافر يبدو صارخاً عليهما أول الأمر. لذا، لم يعد ثمة بد مما ليس منه بد: يجب أن تكتمل الفرحة الآن بتحويلها فرحة مزدوجة، إذ ها هما بنديكت وبياتريس قررا الزواج وليشمل الفرح الجميع.
> نعرف طبعاً، أن الموضوع خفيف، وهو كان خفيفاً أيضاً لدى شكسبير الذي كان ينظر الى هذه المسرحية على أنها عمل ترفيهي خالص، وإن ضمّنه بعض مؤشرات سيكولوجية اجتماعية لا ريب فيها. أما بالنسبة الى برليوز، فإن هذا الموضوع الخفيف، الذي كتب اقتباسه بنفسه، على عادته، كان مناسبة حتى يمرر، وسط موسيقى شديدة الاحتفال والمرح، بعض لحظات عاطفية حزينة، لعلها أجمل ما في هذا العمل، موسيقياً على الأقل، ولسنا في حاجة الى التأكيد هنا أن هذا العمل حقق نجاحاً كبيراً منذ عرض للمرة الأولى. بل لعل من الممكن القول إن الغناء الثنائي الليلي بين بنديكت وبياتريس حين يعبّران عن حبهما -، وهو من أجمل ما في هذا العمل أيضاً، يعتبر صاحب الفضل في نجاحه، الى درجة أنه ما لبث خلال السنوات اللاحقة، أن «فُصل» عن العمل ككل وصار يقدم بمفرده، غناءً وموسيقى أيضاً، وهو يعتبر اليوم أشبه بأن يكون عملاً مستقلاً قائماً في ذاته.
> كما أشرنا، كان العمر قد تقدم كثيراً بهكتور برليوز (1803 - 1869) في ذلك الحين، لكن العمر لم يفقده نسغه الفني ولا قدرته على التعبير، في موسيقاه، عن الحب ولا عن ولعه الدائم بشكسبير. وهذه القدرة هي التي تكمن خلف «بياتريس وبنديكت»، العمل الذي، حتى وإن لم يكن في قوة «السيمفونية الغرائبية» أو «الطرواديون»، فإن له مكانته الأساسية الى جانب أعمال برليوز الكثيرة الأخرى.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق