بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

«الوصايا العشر» لكيشلوفسكي: مواعظ خفيّة للزمن الراهن

وإن كان العديد من المهرجانات السينمائية العالمية قـــد عــــرض في حينه تلك الشرائط العشرة التي حققها المخرج البولنـــدي كريستوف كيشلوفسكي بعنوان جامع هو «الوصايا العــشر»، فإن أحداً لم يفته أنها في الأصل سلسلة حققت للشاشة الصــــغيرة، على يد فنان كبير، كان طوال مساره المهني يستهويه هـــذا النـــوع من «السلاسل»، فقدم سينمائياً، ثلاثة أفلام تحت اسم «أبيـــض- أزرق- أحمر» انطلاقاً من شعار الثورة
الفرنسية وألوان العــلم الفرنسي، وكان عنــد رحيله عام 1996، يستعد لتحقيق أفلام ثلاثـــة عن أجزاء «الكوميديا الإلهية» لدانتي: «الجحيم»، «المطهر»، و»الفردوس». ونذكر أن النقاد الأوروبيين، حين عرضت شرائط «الوصايا» العشر، أثنوا على المشروع واعتبروه مقدمة مميّـــزة للمزج الفني الخلاق بين إمكانات التلفزيون وعبقرية السينـــما، مشبهين العمل برائعة الألماني راينر فاسبندر «برلين الكساندربلاتز». غير أن هذا كله يجب ألا ينسينا أن كيشلوفسكي، علـــى رغـــــم تلفزيونية عمله، صوره بأسلوب سينمائي وعلى مقاس 35 ملم، يوم كانت دقة التصوير التلفزيوني غير رائجة بعد.
> طبعاً، سيدرك القارئ بسرعة هنا أن العمل، في مجمله، ينطلق من الوصايا العشر، كما جاءت في الكتب المقدسة، لا سيما في العهد القديم، بصفتها قواعد أساسية للسلوك الإنساني... أي على شكل وصايا موجهة لبني البشر كي يعرفوا كيف يتعاملون بعضهم مع بعض. وكيشلوفسكي قام مشروعه أصلاً على الاستحواذ على الوصايا وجوهرها، في عشر حكايات، لا يتعين بالضرورة اعتبارها تصويراً بصرياً لها. فالشرائط ليست، بعد كل شيء، أعمالاً وعظية. بل، ربما يصح القول إنها أعمال ذاتية أراد المخرج وكاتب السيناريو المتواطئ معه أن يجعلا منها تعبيراً عن الذات وبحثاً عن موقع في العالم، تأملاً للكون والإعلان عن البعد الروحي لهذا الكون، ناهيك بمجابهة المخرج هواجس ذاته القديمة والجديدة، في انطلاقه فيلماً بعد فيلم من الإطار العام للوصية.
> أنجز كيشلوفسكي العمل كله خلال عامين هما 1988 - 1989، وعمل مع المساعدين أنفسهم، وفي أحيان كثيرة مع الممثلين أنفسهم. ومن هنا اتجاه نقاد كثر إلى التعاطي مع المشروع كله على أنه «فيلم واحد مجزأ إلى فقرات متتابعة». أما السؤال الذي افترض النقاد أن كيشلوفسكي قد طرحه على نفسه، كتبرير للإقدام على مشروع هكذا، فكان: أي مكان لمثل هذه الوصايا العشر في عالم اليوم؟ في زمن العلم والتقنية والتفكك الاجتماعي العام؟ ولعل هذا السؤال الضمني يجد تعبيره البصري من خلال شخصية رجل يتدفأ قرب بحيرة وسط الصقيع، نراه في واحدة من الحلقات، من دون أن يبدو لوجوده هنا سبب ظاهري. إنه جالس يتأمل، ولا يقوم بأي فعل حقيقي. وهذا الرجل نفسه يعود حلقة بعد حلقة، وتحت ملامح الممثل نفسه، ودائماً من دون أن ندرك لماذا هو هنا، وأي دور له في مسار السلسلة. ولماذا نراه مستنكفاً عن فعل أي شيء باستثناء نظرة ضائعة يلقيها؟ ولكن نظرة من إلى من؟
> الحال أننا إذا دققنا النظر والتأمل، قد نصل إلى استنتاج يقول إن هذه النظرة هي الأساس، لأنها نظرة المخرج، أو نظرتنا نحن معشر المتفرجين. أو ربما تكون نظرة ملقاة علينا، على المخرج وعلى الكون في تساؤل عما نفعل، نحن أيضاً هنا. فما الذي نفعله نحن؟ ببساطة نتفرج... وأكثر من هذا، وعلى ضوء بعض جوهر أسلوب كيشلوفسكي الفني: نحن نتلصص على حياة الآخرين، ربما بدافع الفضول أو بدافع استخلاص الدروس... أو أي شيء على الإطلاق. فإلام ننظر؟ إلى أب يتحاور مع ابنه حول العقلانية والحسابات المجردة فيما هما يلعبان الشطرنج. أو إلى طبيب وجارته يلتقيان دائماً ليتبادلا النظرات. أو إلى زوجة تخرج عشيقها ذات سهرة ميلاد من بيته كي يبحث معها عن زوجها المختفي منذ ثلاث سنوات. بعد ذلك نشاهد رجلاً وامرأة آخرين يتسامران في شقة فيما هو يعطيها رسالة ويطلب منها ألا تقرأها إلا بعد موته. وإذ ننتهي من هؤلاء تطالعنا في الشريط الخامس ثلاث شخصيات يُوالَف بين حكاياتها: محام في امتحان شفهي، شاب يتجول في المدينة وسائق سيارة أجرة يبدأ عمله اليومي. أما الشريط السادس فيحمل من الخصوصية ما يجعله يبدو، من ناحية، ممهّداً لسلسلة أفلام تالية لكيشلوفسكي (أبيض، أزرق، أحمر)، ومن ناحية أخرى مفسراً ومبرراً لسلسلة «الوصايا العشر»، إذ لدينا فيه تلك العلاقة الغامضة بين فتى متلصص وجارته الحسناء، كما لدينا جريمة تُرتكب في شكل مجاني.
> وفي الوصية السابعة لدينا توليف متواز يرينا امرأتين حول طفلة. امرأتان أخريان تشغلان الشريط الثامن، لكنهما هذه المرة مدرسة فلسفة في وارصو، ومترجمة كتبها الأميركية. شخصان أيضا يشغلان الشريط التاسع، هما رجل وامرأة يخيّل إلينا أول الأمر أنهما سعيدان متجانسان في حياتهما، لكننا سرعان ما نكتشف أن هذه الحياة على وشك الهبوط إلى الجحيم قبل أن يتصالحا من جديد ويختلفا من جديد ثم يتصالحا. وأخيراً في الحلقة العاشرة لدينا ثنائي أيضاً، لكنه هذه المرة مؤلف من أخوين ورثا عن أبيهما أشياء صغيرة لا فائدة منها وديوناً لا يجدان سبيلاً لإيفائها. ثم وهما يبحثان في البيت بين أغراض الأب الراحل، يعثران على مجموعة طوابع نادرة غالية الثمن. غير أنهما بدلاً من بيعها للاستفادة من ثمنها، يتحولان إلى جامعين للطوابع، إلى درجة أن أحد الأخوين يبيع كليته لشراء ما يُعرض عليهما من طوابع إضافية نادرة. وفي النهاية يحدث أن تسرق المجموعة كلها فماذا يفعل الأخوان؟ يبدآن التجميع من جديد.
> مثل هذه المواقف العبثية، إذ تُروى على هذا النحو المختصر هنا، قد لا تبدو على علاقة واضحة بالوصايا العشر. بل إن المتفرج حين يشاهدها شرائط معروضة أمامه، قد يعجز أول الأمر عن إدراك البعد الوعظي الأخلاقي فيها، هذا البعد الذي يربطها بالوصايا. ولكن تأملاً عميقاً في كل حلقة، ثم مشاهدتها مرات ومرات، سيضعان المتفرج أمام حال يبدو معها كيشلوفسكي وكأنه يُعصْرن الوصايا القديمة، أو يلائم بينها وبين سينماه، أو يقول لنا لماذا يأتي العصر لينسفها كلياً.
> أما خارج هذا البحث عن معنى، فإن للشرائط العشرة جـمالياتها الخاصة، التي جعلت منها حين عرضها، ولا تزال تفعل إلــى الآن، درساً تلفزيونياً حقيقياً، من ناحية، ودعوة جديدة إلى تدخل السينمائيين في التلفزيون من ناحية ثانية. ومن ناحية ثالثة إشارة إلى أن التلفزيون يمكنه، حين يشاء، أن يكون مسرحاً لفن كبير ولمتعة المشاهدة، من دون أن يشكل الإضجار إطاراً لذلك كله.
> حين حقق المخرج كريستوف كيشلوفسكي فيلمه الأخير «أحمر» ليعرض في مهرجان «كان» عام 1994، قال كثر من النقاد إن هذا الفيلم من النمط الذي قد يختتم به مبدع كبير حياته، مع أن المخرج البولندي المقيم في فرنسا في ذلك الحين، كان لا يزال في الثالثة والخمسين من عمره. لكن «نبوءة» النقاد تبدّت صحيحة بعد ذلك بسنتين، حين رحل كيشلوفسكي عن عالمنا فريسة مرض عضال وضع حداً، للمسار الحياتي والمهني لواحد من كبار مبدعي أوروبا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وتشهد على هذا مجموعة أفلام حققها هذا المبدع للسينما وللتلفزيون - أحياناً -، منذ انطلاق اسمه للمرة الأولى عام 1989 بفيلم «الهاوي» الذي، حتى وإن كان عرضه العالمي الأول الذي جرى في موسكو، خلال مهرجانها السينمائي لذلك العام، هوجم كثيراً من السلطات الستالينية التي كانت تحكم بولندا في يومها، إذ صوّر فيه كل ضروب الفساد والخراب السلطوي، من خلال عين كاميرا ترى كل ذلك صدفة. لكن «الهاوي» لم يكن أول أفلام كيشلوفسكي، وطبعاً لن يكون الأخير، وإن كانت السمعة التي صارت لـ «الهاوي» مكنته من أن يتابع مساره ليحقق عدداً لا بأس به من أفلام في بولندا نفسها، على رغم الصعوبات، حتى باتت الأمور أكثر صعوبة، فتوجه إلى فرنسا، حيث عاش معظم السنوات الأخيرة من حياته، وحقق مجموعة أفلام، من أبرزها «حياة فيرونيك المزدوجة» (1991) إلى جانب السلاسل التي ذكرنا، كما عاد يعرض في «الخارج» أعمالاً سابقة له كانت حققت في بولندا وأثارت ضجة وفضولاً ومنها «من دون نهاية» (1984) و«الصدفة» (1981).
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق