بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 25 مارس 2018

النرجسية الرقمية الجديدة

أكثر ما استخدم فيه مصطلح النرجسية الرقمية هو الإشارة إلى هوس البعض بالتقاط الصور لأنفسهم بأنفسهم «السيلفي» ثم نشرها. ومع تعدد المواقع والتطبيقات تفرعت الدراسات النادرة جداً حول المشكلات النفسية للعصر الرقمي، أو التأثيرات النفسية للإعلام الرقمي، أو تغير سلوك الإنسان، والتغيرات المتوقعة مستقبلاً للمدمنين ومتابعي كل شيء تقريباً.
في مجال التواصل تحديداً لم يعد يكفي نشر الصور الشخصية كوسيلة تأثير، هذا إذا كانت تؤثر بالفعل، وارتفع سقف التوقعات لدى النرجسي الرقمي ليصبح مصاباً بداء أكثر عمقاً في الذات، لينتقل من «تصوير نفسه بنفسه» إلى رغبة ملحة في أن يقوم الآخرون دوماً بـ «تصويره»، ليس بالضرورة بعدسة تلتقط ملامحه أو مواقفه التي تدعي العفوية، بل أخطر قليلاً من ذلك، إنه يروم أن يتداولوا اسمه، لكن هذه الرغبة تتطور لا إرادياً لرغبة ملحة في أن يتناقلوا أفكاره.
لو كان لديه ما يمكن اعتباره رأياً أو فكرة أو حتى طرفة، لأصبح من حقه ذلك، لكن المشكلة الأعمق أن جل ما لديه هو لآخرين، أوحوا له أو حقنوه شيئاً فشيئاً به، بدءاً من أنظمة أو أشخاص أو مجموعات، وليس انتهاء بشركات تسويق، أو شركات تقنية عملاقة تمثل اليوم ما يصفه النقاد في الغرب بملامح الإقطاعية الحديثة.
في السعودية، وفي العالم العربي إجمالاً، حيث منطقة متابعتي وتركيزي، أكثر من يصاب بها فارغون يتم استخدامهم ودعمهم لمحاولة ضرب عقول مليئة بالأفكار، وجرح قلوب تنبض بأوطانها وقضاياها المصيرية، أو تلك التي كانت في الإعلام التقليدي أو الرسمي مصيرية، وتفقد اليوم، وكل يوم جزءاً من هذه المصيرية لمصلحة «اللاشيء».
لا يفقه الكثيرون أن الإنترنت اليوم هو المعمل الرئيس لتشكيل الهوية، أو لصنع الكينونة، خصوصاً للأجيال الجديدة المنساقة طوعاً وهي محبة عاشقة، أو حتى كرهاً، وهي فقط تقلد وتخشى الخروج من دائرة ما تعتقد أنه عصرية وتطور. وهذا المعمل يبتسر عادة أجزاء معينة من الذوات المجزأة أصلاً، الذوات الباحثة عن هروب من الواقع إلى الخيال، يبتسرها ويحاول تنميتها وحدها لتكون هي الذات، ولتموت تلك الأجزاء المعزولة التي ربما كان بعضها أفضل أو أكثر قدرة على العيش والنمو المتوازنين.
المصابون بالنرجسية الرقمية «الجديدة» لا يستطيعون التركيز على برنامج أو تطبيق واحد، يشعرون، أو في الحقيقة تم حقنهم تدريجاً، بأن عليهم تقسيم آرائهم وأفكارهم وصورهم في كل شيء، على طريقة عروة بن الورد «في جسوم كثيرة»، مع فارق المعنى، وبالطبع فارق الأهداف.
المضحك المبكي أن أكثرهم تمت صناعته، ثم أوحي له أنه صنع نفسه، فنشأت نرجسيته وكبرت معتمدة على تغذية راجعة من نرجسيات صغيرة تم توليدها وتنتظر دورها في معامل التسمين والنفخ.
المطمئن أنه كما في أرض الواقع الذي سيظل دائماً هو الحقيقة، يزداد العالمون العميقون أولي النهى والإفهام الصحيحة تواضعاً، وتزداد هذه النرجسيات المستحدثة كبراً وخيلاء حتى يأتي «دبوس» خفي يحمله من حمل «المنفاخ» ليفقأ البالون المدعو س-1 مثلاً وتبدأ رحلة النفخ في المدعو س-2... مثلاً.
*محمد اليامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق