بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 13 ديسمبر 2015

مايرويه المثقف الطائفي

يبدو أن ثنائية الراوي والمروي له في الخطاب السردي العربي أصبحت عرضة للشكوك والريبة والالتباس، فلم يعد الراوي بعيدا عن ضغائن السياسة وإغواءاتها، ولم يعد المروي له يملك الأهلية القومية والشرعية والمعرفية لبيان صلاحية فعل استجابته الكاملة..
هذه المفارقة وضعت ثقافتنا العربية- اليوم- أمام لعبة مفتوحة من الاستجابات المضادة، والإكراهات القهرية التي يفرضها رواة عاطلون عن الحكاية، وعصابيون متوحشون ومنافقون يمارسون نوعا من الإجبار الجماعي القمعي على المروي لهم لكي يغيّروا عاداتهم في الإنصات والتلقي، فبَدل الرواية صارت الخطبة عنوانا للحكي، وبدل الحكواتي صار مُقدّم البرامج والداعية والفقيه والأمير، وبدل المروي له صار المريد والجهادي والمأمور والمبايع..
لبوس هذا الإنصات وأقنعته فرضت صورة أخرى لسيمياء الراوي الطائفي والقومي أو التكفيري والسلطوي والفقهوي ولمزاجه الراديكالي، حدّ أن أية معارضة لهذا المزاج الإنصاتي ستفضي الى المجاهرة بالدعوة العلنية بتهمة المروق، والخروج عن الجماعة والملة والأمة وعن إرادة ولاية الأمر وحاكميتها..
السلطة العربية ونُخبُها التاريخية الثقافية الثورية والعلمانية والتنويرية الإصلاحية فقدت الكثير من امتيازها الصوتي لصالح تلك الظاهرة النكوصية، وفقد معها الرواة القدامى صلاحياتهم السردية والحكواتية، وبدأ -تحت هذا الفقدان- عصرٌ آخر لرواية قوطية أخرى، لكنها دامية في أسفارها وسيرها وأخبارها، وفي مُتخيلها، إذ يروي سردياتها رواة أنيقون ووسيمون، لهم قاموسهم البلاغي الحاد والمخاتل، وبقمصان وأربطة عنق تُجاري صيحات الموضة الباريسية، ولهم وظائف المذيع الفضائي، والمحلل السياسي ومحرر الأخبار والصفحة الثقافية والرأي ومنظّر الحداثة والمتحدّث عن فلسفات كانط وهيغل ودريدا، وربما وجد بعضهم غطاءه في أن فوكو كان طائفيا كاثوليكيا، وأن جومسكي متطرف في آرثذوكسيته، وأن برودسكي يفكر بيهوديته واليوت كان يفكر ببروستانتيته..
هؤلاء الرواة المثقفون قريبون من الأمزجة الحكومية والحزبية ورساميل الدعاية، لذا أصبحوا ماركات مسجلة لفقهيات الحداثة، بشفرات تقوم على النقائض، وتتعامى عما يجري في بلدانهم، وكأنهم يمارسون وظائفهم النقدية خدمة لمؤسسات التمويل الإعلامية والثقافية والبحثية العابرة للدول والقارات، إذ باتت وظيفة ( الهؤلاء) كما يسميهم مجيد طوبيا بيع كل شيء، وتبرير كل شيء، بدءا من حروب المدن، وقتل الطوائف الأخرى وتلميع الجنرالات والحكّام وصولا الى مثاقفة الأناشيد وخطب الرؤساء والملوك والفلسفات والبرامج الاقتصادية، وحتى التنظير في سرائر المعرفة التي تخص إسلاملوجية الملل والنحل والفرق الناجية والكافرة، وانتهاءً بالإشهار عن استعمالات المنظور الدعووي الفائق الحساسية، والمُجهّز بتقانات الحصانة الطائفية لكَشْف الأضداد من الزنادقة والمارقين من ثوار وحالمين ومن مثقفي العلمنة والطَيفَنة
والقومَنة..
سرديات الحرب الظاهرة والخفية في لبنان واليمن والعراق وسوريا وليبيا ومصر كشفت عن هشاشة (الهؤلاء) اللابسين اقنعة المثقف الطائفي/ الراوي والإعلامي والمحلل والأكاديمي والانتهازي والمخذول!! والفاقدين قدرتهم الأخلاقية في التعاطي مع قضايا الأمة الكبرى، مثلما عرّتهم من أوهام ثياب الامبراطور، ووضعت وعيهم المخذول أمام فخاخ الأسئلة، أسئلة المعنى والوجود والأخلاق والالتزام والعضوية والمهنية والموضوعية، حتى بتنا- اليوم- نتجرع كارثية مايتساقط من هذا الوعي الطائفي الذي يجاهر علنا بالموت، والخداع والكذب والوهم، حد أن البعض من مروّجي هذا الخطاب الثقافي التعويمي يحرّض على العودة الى التاريخ وسردياته وصراعاته بوصفها متحفا، أو بيتا للغرماء، ليستعير حواره وجدله ونقائضه، وليمنح وصايا (الممول) ومدير الإنتاج، وربما وصايا الجنرال ذاته القوة والإشهار والتضليل، وليفسّر على وفق قاموسها كل ما لايُفسر، وليضع الحاضر تحت مشرحة فقه المقاصد، وليس علمية المقاصد، وربط الصراعات التي تشتعل في العقل العربي بمرجعياتها وأسبابها، وبطبيعة القوى العميقة التي تضع الجميع أمام الفوضى والمتاهة، وبعيدا عن أية مراجعة نقدية عقلانية تشرعن الحوار والجدل والسؤال، ولا تدعو الى موت الآخر وتكفيره والشك التام بسردياته، ودعوة الجميع للانخراط في لعبة الحروب العلنية، حروب مايرويه المثقف الطائفي والمثقف الجماعاتي..
*علي حسن الفواز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق