بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 23 مايو 2017

«عيد البطولة» لفيدر: حين تصبح المقاومة عبئاً على أصحابها

هو بالنسبة إلى البعض فيلم مسالم أراد، باكراً، التنبيه إلى أن المواجهة، حتى وإن كانت بطولية ومحقة في أسبابها، تصبح عبئاً على المقاومين حين لا تكون مفيدة. لكنه بالنسبة إلى الآخرين فيلم يتضمن دعوة إلى التعاون مع العدو المحتل. صحيح أن هذا الفيلم حقق في عام 1935، أيام كان خطر الغزو الألماني الهتلري لأوروبا لا يزال نوعاً من
التهويل، لكن دلالاته كانت واضحة إلى حد بعيد. ومع هذا كان أغرب ما في الأمر أن يمنع الألمانيون النازيون الفيلم منذ احتلوا بلجيكا وفرنسا... ولعل الغرابة تنبع أساساً من أن هذا الفيلم كان عرض، أول ما عرض عالمياً، في ألمانيا نفسها، وقبل أن يعرض في فرنسا (الدولة المنتجة) أو في بلجيكا (موطن المخرج وموطن الأحداث القديمة التي يرويها الفيلم). هذا الفيلم الذي نتحدث عنه هنا هو «عيد البطولة» من إخراج جاك فيدر، ذي الأصل البلجيكي مع أنه حقق معظم أفلامه في فرنسا وانتمت سينماه إليها. والفيلم كتب حكايته، أصلاً، كاتب السيناريو البلجيكي شارل سباك. ولئن كان سجال سياسي واسع ودائم طاول هذا الفيلم دائماً ليعطيه أهميته التاريخية، سواء أكانت هذه الأهمية سلبية أو إيجابية- بحسب وجهة النظر-، فإن ما يميزه ويصنع له مكانة فريدة في تاريخ الفن السابع، هو كونه يقدم ما يشبه التحية لبعض كبار رسامي عصر النهضة في الشمال الأوروبي، من رمبراندت إلى بروغل، ومن فرانتز هالس إلى روبنز. ذلك أن الديكورات والأجواء التي نفذها في الفيلم ألكسندر تراونر الذي سيصبح لاحقاً من كبار مصممي الديكور في السينما الفرنسية، أتت جميعاً مستقاة مباشرة من لوحات خالدة لأولئك الرسامين، ولا سيما منهم بروغل الذي اقتُبس في الفيلم بوفرة، ولا سيما في مجال المشاهد التي تصور الاحتفالات الشعبية والمآدب، والحياة اليومية للناس البسطاء.
> هؤلاء الناس البسطاء يلعبون دوراً لا بأس به في الفيلم. ومع هذا فإن البطولة الأساس معقودة فيه إلى المرأة التي تحرك الأحداث وتتصدى للصعوبات، على عكس الرجل الذي إما يهرب إلى الأمام وإما يختفي وإما يقف محايداً لا يدري ماذا يفعل. والمرأة التي نعنيها في الفيلم هي زوجة حاكم بلدة متوسطة الحجم في منطقة الفلاندر (لاحقاً جزء من بلجيكا). هذه البلدة كانت في ذلك الحين (خلال القرن السابع عشر) تحت الاحتلال الإسباني مثلها في هذا مثل مقاطعات عدة في تلك الناحية الشمالية الغربية من أوروبا. وتحت الاحتلال كانت البلدة تعيش حياتها شبه الطبيعية من دون أن يبدو عليها أنها تلقى أي بال لذلك الاحتلال، طالما أنه بعيد ويكتفي بمكاسبه من دون أن يلقي بظله الكثيف. من هنا يتصرف أهل البلدة، وحاكمها ومجلس بلديتها، وكأن لا احتلال هناك ولا يحزنون. ولكن ما العمل حين يقرر قائد عسكري إسباني هو من أهل البلاط في مدريد، أن يمر بالبلدة وهو في طريقه إلى الشمال مصحوباً بحرسه وجيوشه وحاشيته؟ واضح أن هذا العبور يقلب الأمور رأساً على عقب. ذلك أنه يضع سكان البلدة وسادتها أمام واقع كانوا يفضلون أن يتجاهلوه. ويزداد الأمر حدة وصعوبة حين يجد أهل البلدة أن عليهم أن يؤدوا إلى المحتل الزائر فروض الطاعة وأن يقيموا على شرفه احتفالات وأعياداً، يجب أن تصل إلى ذروتها مع كرمس كبير، عامر بالاحتفالات وضروب الأداء الفني والولائم وما شابه. والحقيقة أن أهل البلدة كان في وسعهم أن يغضوا الطرف عن ذلك الكرمس الاحتفالي مكتفين ببعض آيات التكريم الرسمي الجافة، لولا أن المحتل الإسباني كان يعرف سلفاً أن موعد مروره في البلدة يتطابق مع الموعد السنوي للكرمس. وهو بالتالي يصر على حضوره... بل حتى أن تكون إقامة الكرمس تحت رعايته، ما يتنافى ليس فقط مع عادات تلك البلدة، بل كذلك مع كرامتها وكرامة أبنائها. ما العمل إذاً؟
> واضح، من خلال توازن القوى أن ليس ثمة سوى جواب واحد على هذا السؤال: العمل الوحيد الممكن هو إقامة الكرمس وفي حضور المحتلين وفي مناخ من الفرح والصخب الاحتفالي. هذا ما يريده القائد الإسباني وهذا ما يجب أن يحدث. أو هذا على الأقل ما فكرت فيه زوجة حاكم البلدة، خصوصاً حين خطر في بال زوجها أن خير ما يفعله لتفادي الإهانة هو أن يتصنع الموت. وهكذا تختار زوجة الحاكم أن تقود الاحتفالات بنفسها وكأن شيئاً لم يكن، وفي غياب زوجها. وهي، لبلوغ الغاية المرسومة، من دون عقبات ومشاكل، تجمع نساء البلدة ليشاركنها في التنظيم فيما الرجال يثرثرون حائرين لا يعرفون علام ستستقر الأمور في النهاية. في النهاية ينتصر رهان كورنيليا دي ويث، زوجة الحاكم (وقامت بالدور فرانسواز روزاي، زوجة المخرج جاك فيدر في الحياة الحقيقية)، فتقيم الاحتفال الصاخب فيما زوجها يدّعي الموت وجيشه المؤلف أصلاً من أربعة جنود قد ولى الإدبار. وبعد الاحتفال الذي يشغل جزءاً كبيراً من زمن الفيلم، يبدو الدوق دي أوليفاريس (القائد الإسباني العابر) راضياً، ويتمكن تصرف كورنيلا من المحافظة على السلام داخل البلدة من دون أن يتأذى أحد.
> هذه هي في اختصار حكاية الفيلم... وكان يمكن أن تعتبر حكاية بسيطة من حكايات تلك الأزمنة القديمة لولا أن كثراً من النقاد والدارسين- في ذلك الحين- رأوا فيه تلك العلامات والإشارات التي يمكن إسقاطها على الزمن الراهن- الزمن الذي كانت فيه ألمانيا تستعد للتحرك لغزو أوروبا. ولعل أكثر ما أثار الضجة في وجه الفيلم هو الصورة التي بها قدم السيناريو، القائد الإسباني: فهو شخص إيجابي طيب السريرة، يبدي الكثير من الاحترام لأهل البلدة على عكس رجالها الجبناء والذين بدل المشاركة أو المقاومة فضلوا الهرب- بكل أنواعه- تاركين السكان والنساء لمصيرهم. بل إن جنود الدوق، ما كانت لهم أبداً الملامح المعهودة لدى جنود يحتلون بلداً آخر: إنهم أيضاً شديدو اللطف، لا يهمهم سوى أن يشاركوا بكل جوارحهم في الاحتفال، ولا يتورعون عن مد يد المساعدة إلى نساء القرية لدى أدنى صعوبة في إعداد الاحتفال تعاني هاته النساء منها. ترى أمام مثل هذه التصرفات هل كان يمكن، بعد، الحديث عن احتلال وعن أشرار وطيبين؟ فإذا زدنا إلى هذا ما نعرفه من أن «عيد البطولة» قد صوّر أصلاً في نسختين واحدة ألمانية والأخرى فرنسية وأنه عرض على نطاق واسع، هل سندهش إن رأينا الصحافة الفرنسية والبلجيكية تكتب عنه مهاجمة مناخه الاستسلامي وذهنيته التي تدعو، وفي كل وضوح، إلى التعاون مع قوات الاحتلال حين تحتل بلداً ما؟ أما غوبلز مسؤول الدعاية الهتلرية، والذي كان معروفاً باهتمامه بالسينما، فإنه- كما يبدو- لم يفهم شيئاً من تلك الذهنية كلها. بل نراه يسارع إلى المطالبة بمنع الفيلم، بل حتى بملاحقة جاك فيدر مخرجه، ومن دون توضيح الأسباب. وبهذا يكون فيدر قد وقع بين سندان النازيين ومطرقة الفرنسيين والبلجيكيين، علماً بأن الرجل ظل دائماً يتساءل بدهشة عن سر ذلك «التوافق بين الأعداء» عليه؟
> وإذا كان الفرنسيون قد لفظوا فيلم «عيد البطولة» في زمن كانت فيه قوى اليسار قد بدأت السيطرة على السلطة من طريق الجبهة الشعبية، لفظاً هادئاً، فإن البلجيكيين بدوا أكثر عنفاً ولا سيما من خلال مهاجمتهم لمواطنَيْهم، مخرج الفيلم وكاتبه. أما مؤرخو السينما فإنهم سيعودون بعد سنوات ويضربون صفحاً عن ذلك البعد الأيديولوجي والسياسي كله، مركزين على تميز، «عيد البطولة» فنياً، وعلى عناصر التجديد فيه، ولا سيما انطلاقاً من قدرته على رسم المناخ الجغرافي ومناخ البيئة في تلك المنطقة من العالم، خلال زمن خلف لنا بروغل (الرسام الكبير) وزملاؤه، صورة رائعة عنه، في لوحات لا بد من الإشارة مرة أخرى هنا- لأهمية الأمر في تاريخ الفن السابع-، إلى أن الفيلم بدا أميناً في نقلها بحيث أن مشاهد كثيرة منه تبدو بأهلها وبيوتها وملابسها وأثاثها منتزعة مباشرة من تلك اللوحات. ولعل هنا يكمن النجاح الحقيقي لجاك فيدر (1885- 1948) في هذا الفيلم الذي يعتبر قمة إنتاجه، وفاز في عام 1936 بجائزة أفضل مخرج في مهرجان البندقية.
براهيم العريس

هناك تعليق واحد:

  1. لاتصال للحصول على قرض سريع وسريع.

    أقدم قرض آمن وغير مضمون بنسبة 3٪.

    استعارة مبلغ القرض من 2000 إلى 5000،000jd.

    اختيار مدة القرض من سنة واحدة إلى عشر سنوات.
    saheedmohammed17@gmail.com

    ردحذف