بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 3 مايو 2017

«الرفاق» لجول رومان: طريقة مبتكرة لمعاقبة مجتمع سخيف

لا شك في أن معظم الفرنسيين يعرفون أغنية جورج براسّان الشهيرة «الرفاق أولاً» التي يروق للبعض حتى، اعتبارها «نشيداً وطنياً لنوع من التهكم الفرنسي الخالص» أبدع فيها براسان صياغة للمعاني وتنقية للموسيقى وغناها دائماً بطريقته التي لا تُقلّد. إذاً كثر يعرفون الأغنية، لكن قلة من الناس فقط تعرف كيف ولماذا وُلدت. فهي لم تولد عفو الخاطر كما كان يحدث مع معظم أغنيات ذلك الفنان الشاعر الكبير، بل للترنم بها في فيلم فرنسي ظريف حمل يومها عنوان «الرفاق» وحقق نجاحاً كبيراً، ليس فقط بفضل الأغنية، بل بفضل الرواية التي أُخذ الفيلم عنها، ولا تزال تعتبر حتى اليوم واحدة من أظرف الروايات الفرنسية وأكثرها لؤماً، بل حتى من أكثرها تمرداً وثورة على نمط معين من الحياة الاجتماعية الفرنسية وشفراتها ورموزها، وتبدو دائماً جديدة معاصرة رغم مرور أكثر من قرن على ظهورها في العام 1913. وما نتحدث عنه هنا هو رواية «الرفاق» للكاتب الفرنسي جول رومان، الذي بفضل هذا النصّ تحديداً شُبّه بالكاتب الروسي غوغول صاحب «المفتش العام» التي ثمة صلات قرابة خفية تربطها مع «الرفاق». ولا يقتصر الأمر هنا على عنصر سوء التفاهم الذي يشكل محور الروايتين معاً، بل هناك دور كبير لعملية الفضح الاجتماعي التي يقوم بها كل من النصّين على طريقته.
> الرفاق في رواية جول رومان هم سبعة أصدقاء ثائرون غاضبون يكرهون حذلقات وقواعد العيش في مدن الريف الفرنسي، فيقررون أن يعاقبوا مدينتين يزرعان فيهما الفوضى العارمة - وهي على أية حال نفس الفوضى التي تملأ أدب رومان وستغري لاحقاً جول براسان بأن تكون له مساهمة في الأمر. وهكذا يتوجه الرفاق أولاً الى مدينة آمبير حيث يجتمعون بعد دراسة أوضاع المدينة ويتقاسمون العمل: يتنكر بعضهم في أزياء ضباط من الأركان زاعمين انهم آتون من العاصمة كي يشهدوا مناورات عسكرية يأمرون بإجرائها في ثكنة المدينة، فتجري المناورات أمام رعب السكان من دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض... فيما الناس يهرعون لشراء المؤن وقد خُيّل إليهم أن ثمة حرباً واقعة لا محالة. وبعد أيام يضطر كاهن المدينة في كاتدرائيتها الرئيسية الى التخلي عن مكانه في عظة الأحد لوفد رجال دين كبار «مرسلين من الفاتيكان» لمعرفة مبلغ إيمان السكان - ويمكننا نحن أن نخمن أن الوفد مؤلف من الرفاق أنفسهم. ولنا أن نتخيل الفوضى التي سادت أمام عظات خيّل معها للمواطنين ان ثمة ثورة في الفاتيكان تتجلى في الدعوة الى أفعال وعلاقات ومواقف لا علاقة لها بالكاثوليكية من قريب أو من بعيد. ومع هذا لا يجرؤ أحد هنا مرة أخرى على الاعتراض وعلى التساؤل عن حقيقة ما يجرى كما عن حقيقة هؤلاء الناس.
> وهكذا، ما إن يشبع الرفاق غليلهم من المدينة الأولى حتى ينتقلوا الى الثانية وهي مدينة إيسوار غير البعيدة عن الأولى. أما المناسبة هذه المرة فهي احتفال العمدة ومجلس البلدية وكبار الأعيان والمواطنين بإقامة تمثال ضخم أنعمت به العاصمة عليهم يمثل الشخصية التاريخية القومية «فرسيجيتوريكس». عندما يزاح الستار عن التمثال وسط صخب الموسيقى والضجيج يذهل الناس مرتين: الأولى حين يكتشفون جمال التمثال وكم أنه يصوّر الشخصية حقاً. والمرة الثانية، حين يتحرك التمثال ويبدأ بالحديث متوجهاً اليهم بكلام ما كان اي واحد منهم ليتصوّر ان ذلك الصرح التاريخي يمكن ان يقوله لهم يوماً!
> وطبعاً لم يكونوا يعرفون ان التمثال ليس سوى واحد من الرفاق وان اللعبة كلها مدبرة لنسف هذا التاريخ الفرنسي الساذج. أما الرفاق فإنهم بعد ذلك يجتمعون في الغابة القريبة ليحتفلوا بفعلتهم ويتعاهدوا على مواصلة طريق الحرية والفوضى ونزع الأساطير تلك التي نجحت معهم حتى الآن. بالطبع انتقل النجاح الى الرواية نفسها، لكنها لم تتفوق أبداً على النجاح الأكبر في هذا المجال الذي حققه عمل جول رومان الضخم «الناس ذوو الإرادة الحسنة» الذي كان هو ما عرّفهم على ذلك الكاتب فتزاحموا لشراء أجزائه حين توفي العام 1972. وحين توفي رومان كان يستعد، من الناحية المبدئية للاحتفال بالذكرى السابعة والثمانين لميلاده، هو المولود في 1885. وكان خلال الشهور الأخيرة من حياته قد أصيب بمرض اضطره للبقاء في المستشفى قيد المعالجة، لكنه سرعان ما رحل فكان إجماع، على ان فرنسا خسرت برحيله كاتباً كبيراً، وكاتباً شعبياً بالتحديد.
> والحال ان ذلك الإجماع ما كان من شأنه إلا ان يرضي ذلك الكاتب الذي، منذ ان قرر الانخراط في نوع أدبي ملتزم، جعل من نفسه ناطقاً رسمياً باسم الإجماع، وهو إجماع كان قد عبر عنه وعن توقه اليه، باكراً، في ديوان شعر أصدره في 1908 تحت عنوان «الحياة الإجماعية»، كما في العديد من رواياته التي أصدرها بعد ذلك مثل «موت شخص ما» (1911) وهي رواية تميزت بجدية تنتمي الى ذلك الزمن الذي كان شديد الجدية على عتبة الحرب العالمية الأولى.
> ولكن جول رومان سرعان ما تخلى عن جديته ليتجه ناحية السخرية الفوضوية، كما عبر عنها في «الرفاق» ومسرحيتين، لا تزالان تمثلان في فرنسا بنجاح حتى يومنا هذا («كنوك» و «دونوغو»). ومع هذا فإن العمل الأساسي الذي صنع لجول رومان شهرته وقيمته وشعبيته كذلك، كان «الناس ذوو الإرادة الحسنة»، المؤلف من سبعة وعشرين جزءاً، نشرها بين العام 1932 والعام 1947. وهذا الكتاب الذي قرأه عشرات ملايين الفرنسيين حتى اليوم، يروي الحياة السياسية والاجتماعية في أوروبا ابتداء من 1908 حتى 1933.
> هذا العمل الشعبي الضخم هو الذي جعل النقاد ومؤرخي الأدب يقولون عن جول رومان، ان عمله ربما كان واحداً من الأعمال القليلة الفرنسية التي عرفت كيف تمس أفئدة شديدة التنوع. ورومان، الذي بعد ان كان قد درس الفلسفة ونال اجازتها وحاول ان يدرّسها في الجامعة، سرعان ما تخلى عن فكرة التدريس باكراً لينخرط في الحياة الأدبية. وهكذا بعد بدايات بدت متعثرة بعض الشيء جاءت روايته «موت شخص ما» لتضعه على الطريق السليم، ثم جاءت رواية «لوسيان» لتجعل له شعبية لا بأس فيها، ولتبرز نزعته نحو الإجماع، تلك النزعة التي سيطرت على مناخ الكتاب ككل. ولكن ما هو ذلك الإجماع الذي كان جول رومان ينادي به ويجعله مبدأه في الكتابة كما في الحياة؟ ان جواب رومان على هذا السؤال ظل على الدوام عائماً، كما يقول الناقد جاك دي لاكريتيل الذي يضيف: ان الإجماع هو حالة روحية اكثر منه نظرية، وإنه بالنسبة الى جول رومان رؤية للعالم تزيد من قدرتنا على الخلق والإبداع.
> وهذه الحالة وهذه الرؤية، وجد جول رومان خير طريقة للتعبير عنهما في «الناس ذوو الإرادة الحسنة» - ذلك العمل الذي اعتبره النقاد ملحمة العصر الذي عاش فيه رومان، ملحمة شاء هذا الكاتب ان يجمع فيها كل خبرته وتجربته الحياتية. ومن هنا الاسم الذي أطلق على تلك الرواية «الرواية البانورامية». ولقد قال النقاد يومها ان مثل ذلك العمل كان يحتاج لعشرة أدباء حتى يكتبوه. لكن رومان أنجزه وحده، هو الذي كان منتظماً في حياته وعمله يعتبر ان ارستقراطيي الأدب في القرون الغابرة هم أساتذته الحقيقيون. تماماً كما ان موليير كان أستاذه المسرحي، حيث لم يفت النقاد ان يروا العديد من الروابط التي تجمع بين مسرحه ومسرح موليير، ولا سيما في مجال رسم الشخصيات، وجعل أخلاقياتها العامل الأساسي في تمديد مسار العلاقات في ما بينها.
> وفي شكل عام، كان ما يميز أدب جول رومان، هو ذلك التجاور الذي يرسمه بين الحوادث والمصائر، حيث تندفع هذه وتلك معاً، حتى وإن لم تلتق ببعضها البعض. وتلك سمة اساسية من سمات كلاسيكية جول رومان التي تحدث عنها، بتفصيل الباحث ر. م. البيريس في مؤلفه الضخم عن فن الرواية حيث قال: «ان جول رومان انما شاء في ملحمته الروائية الكبرى ان يتحدث عن ضجيج الحياة الجماعية، عن اصوات زمنه، عن الأفراح والأحزان والعواصف والأعياد التي كانت في خلفية تلك الحياة اليومية التي كان الناس، جميعاً، يعيشونها في زمنه، وقبل عاصفة منتصف القرن».
*ابراهيم العريس

هناك تعليق واحد:

  1. لاتصال للحصول على قرض سريع وسريع.

    أقدم قرض آمن وغير مضمون بنسبة 3٪.

    استعارة مبلغ القرض من 2000 إلى 5000،000jd.

    اختيار مدة القرض من سنة واحدة إلى عشر سنوات.
    saheedmohammed17@gmail.com

    ردحذف