بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 يونيو 2017

«لاعبا الشطرنج» لساتياجيت راي: الحكّام لاهون والعدوّ يتقدّم



بكل بساطة، وفي شكل يبدو ظاهرياً أكثر ما يمكن طبيعية بين رجلين تربط بينهما الصداقة من ناحية، وهواية لعب الشطرنج من ناحية أخرى، يفتتح فيلم «لاعبا الشطرنج» للهندي الكبير الراحل ساتياجيت راي، مشاهده بمباراة في تلك اللعبة بين بطليه، وهو بعد الساعتين تقريباً اللتين يمتد عليهما زمنه السينمائي، يختتم تلك المشاهد بمباراة شطرنج أخرى. في اللعبة كل شيء كما كان سابقاًـ باستثناء «تبديل بسيط» يقوم به ميرزا، أحد -«بطلي» الفيلم، في اللعبة، حيث نراه يبدل مكاني الملك والملكة
على الرقعة متبنياً هذه المرة الطريقة الإنكليزية في اللعب. فالذي حدث هو أن الإنكليز، وخلال المسافة الزمنية الفاصلة بين المباراة الأولى والثانية، كانوا بقواتهم وحيلهم ودهائهم، لكن كذلك بفضل التهاء اللاعبين ميرا وميرزا وأمثالهما من الأعيان، قد احتلوا تلك الإمارة المسلمة في الهند، إمارة عودة. ويحدث ذلك، في التاريخ الحقيقي، كما في فيلم «لاعبا الشطرنج» في عام 1856 في مدينة لاكناو عاصمة الإمارة. يومها، كان يحكم تلك المنطقة الغنية والمزدهرة من الهند الملك واجد علي شاه الذي رأت شركة الهند الشرقية، ممثلة الاستعمار الإنكليزي في المنطقة، أنه أكثر اهتماماً بالشعر والرقص والموسيقى من أن يستطيع الاستمرار في الحكم وتوفير الاستمرارية للاحتلال الإنكليزي وسط متغيرات بالغة الأهمية تحصل في تلك المنطقة العاصفة من العالم. وبالتالي، اتخذت الشركة، ومن ورائها الدوائر الاستعمارية البريطانية، قرارها بإزاحة الملك عن عرشه وتسلم شؤون السياسات المحلية مباشرة. وما نشاهده في الفيلم إنما هو تنفيذ هذا القرار بكل هدوء فيما أعيان لاكناو منصرفون الى اللهو والشراب والرقص و... لعب الشطرنج.
> من الواضح في هذا السياق، أن مشهد إبدال قواعد الشطرنج من النمط الهندي الذي من المعروف أنه في أصل اللعبة، الى النمط الإنكليزي الدخيل، هو لب القصيد في هذا الفيلم الذي، فيما هو أبعد من معانيه السياسية، أتى يومها، عام 1977، حاملاً الكثير من التجديد في سينما ساتياجيت راي، التي كانت قد اعتادت قبل ذلك أن تكون متقشفة، أدبية، بالأسود والأبيض. فهذه المرة، بدت الأمور بالغة الاختلاف، بحيث أنه سيقال أن راي قدم هنا واحداً من الأفلام الجميلة حقاً من ناحية غنى الألوان والغوص في التاريخ والدنو من السياسة بطريقة غاية في الابتكار.
> والحقيقة أن الذين لاحظوا هذا كله لم يكونوا بعيدين من الصواب. فهنا، في «لاعبا الشطرنج»، كان ساتياجيت راي يحقق واحدة من أغرب آيات الابتعاد من دروبه المعتادة. فنحن هنا أمام فيلم تاريخي من مخرج لم يكن معتاداً على الأفلام التاريخية. وبالتالي، أمام فيلم غني بملابسه وديكوراته، ناهيك بأن راي كان يصوّر بالألوان - الغنية على الطريقة الهندية - للمرة الأولى في تاريخه السينمائي. ولنضف الى هذا، أن راي يتحدث هنا عن الثقافة الهندية الإسلامية التي لم تكن ثقافته، ويحقق فيلماً بلغة الأوردو التي هي فرع فصيح من الهندية التي لم تكن لغته، ناهيك بأن المخرج أسند الأدوار الى عدد من أشهر نجوم السينما الهندية وهو لم يكن معتاداً على هذا: من أحمد خان الى شعبانة عزمي ومن سعيد جفري الى سانجيف كومار مرورا بالفنان الإنكليزي ريتشارد آتنبورو. ومع هذا على رغم هذه العناصر الغنية كلها، لم يحقق الفيلم أي نجاح تجاري، ما ضمّه الى سلسلة خيبات ساتياجيت راي المعتادة.
> ومع هذا، قد يكون من الإنصاف أن نشير هنا الى أن سينما راي، كانت منذ أوائل سنوات السبعين قد استعادت بعض نجاح، أتى «لاعبا الشطرنج» ليتوّجه، لكن دائماً من دون التمكن من إخراج راي من الهامش، على الأقل في الهند، حيث في الوقت الذي صار أيقونة قومية و»الهندي المعروف أكثر من أي هندي آخر في العالم قاطبة»، ظل المشاهدون يترددون في مشاهدة أفلامه، ويعلنون سأمهم حين يقودهم «حظهم العاثر» و «حشريتهم» الى مشاهدتها.
> مرة أخرى، لم ييأس ساتياجيت راي أمام هذا الواقع. بل أمعن أفلمة للمواضيع التي يحب. وظل ينهل من الواقع ومن الأدب... ولئن بخلت عليه الهيئات والشركات في بلده بالتمويل اللازم لمشاريعه التي راح يحققها بما يشبه الانتظام حتى الرمق الأخير، فإن أموالاً غربية راحت تسانده، يوفرها له غالباً فنانون ومنتجون غربيون (مثل جيرار ديبارديو) معجبون بأعماله، الى درجة أنه عزّ عليهم ألا تتواصل.
> وهكذا، حقق من بعد «لاعبا الشطرنج» مجموعة لا بأس بها من أعمال، يمكن القول على أي حال أنها متفاوتة القيمة، ومن أبرزها «مملكة المجوهرات» (1980)، «عدو الشعب» (1989)، «أغصان الشجرة» (1990)، وأخيراً «الغريب» (آغانتوك) الذي حققه وهو يحتضر تقريباً، ليموت بعد إنجازه، ويدفن في جنازة قومية وشعبية، مشى فيها ألوف من الناس الذين من المؤكد أن كثراً منهم، كانوا يتساءلون عمن يكون هذا البطل الذي يكرمه العالم كله ويشاهد أفلامه، فيما الهند، ذات السينما التي تنافس سينما هوليوود عدداً، لا تجد له مكاناً في استديواتها وشركات إنتاجها. ترى أفلم يقل شخص يوماً: لا مكان لنبي في بلده؟
> ولد ساتياجيت راي (واسمه في الهندية شوتوجيت رايي) في مدينة كلكوتا الهندية، سنة 1921، لأسرة ذات اهتمامات فنية وأدبية وفكرية. لا سيما من ناحية أبيه الذي كان رساماً وشاعراً، ولم يعرفه الابن، إذ إن الأب مات وساتياجيت في الثانية من عمره. باكراً، ألحق الفتى بالكلية الرئاسية التابعة لجامعة فيزفا بهاراتي، ثم التحق بالمدرسة الشهيرة التي كان رابندرانات طاغور، شاعر الهند وأديبها الأكبر، قد أسّسها. وكان طاغور يمتّ الى أسرة راي بنسب وصداقة، ومن هنا فتح ساتياجيت عينيه ووعيه على تلك العلاقة وعلى أسطورية ذلك المبدع.
> إذاً، هناك في مدرسة طاغور المسماة «جامعة الغابات» (شانتينيكيتان)، وجد راي نفسه غائصاً في حب الفن منذ صباه، من الرسم الى الموسيقى والكتابة. لذا كان من الطبيعي حين صار عليه أن يختار مهنته أن يلجأ الى الفن الأقرب إليه، الرسم. فعمل رساماً في وكالة للدعاية. وكان ذلك في عام 1943... لكن تلك المهنة لم تكف طموحاته، فتحول خلال سنوات قليلة الى رسام فني حقيقي... لكنه في ذلك الحين اكتشف السينما وأغرم بها، من دون أن يدرك أنه سيخوض غمارها بعد فترة يسيرة. والحقيقة أن التبدل الأساس الذي طرأ في حياته من ناحية الانتقال الى العمل السينمائي، كان حين قادته مهنته في الرسم الى لندن، فاكتشف الواقعية الجديدة الإيطالية وأغرم بخاصة بفيلم «سارق الدراجة» وتساءل بينه وبين نفسه عما إذا لم يكن في إمكانه هو الآخر أن يصبح مخرجاً ويحقق هذا النوع من الأفلام، حتى وإن كان خالي الوفاض لحظتها تماماً من أي معلومات تقنية. على العموم، جاءه الجواب عن سؤاله إثر عودته الى الهند، حيث فوجئ بأن جان رينوار موجود هناك يصور فيلمه «النهر». فتعرف إليه وطرح عليه السؤال الشائك. فإذا بجواب رينوار يبدو مشجعاً. وهكذا، قرر راي أن يحدث تلك القلبة الأساسية في حياته. ولم تكن مصادفة أن يختار لتجربته الأولى رواية كان يحقق لها رسومات في ذلك الحين، هي «باتر بانشالي». أنفق راي على ذلك الفيلم كل ما يملك من مال فلم يكن كافياً... لكنه تمكن، مع رفاق التفوا من حوله، معظمهم من مكتشفي فن السينما حديثاً، من إكمال الفيلم مع بعض المعونات. وعرض «باتر بانشالي» في «كان» ليحقق من النجاح ما دفع مخرجه الى إكمال مسيرة لم تتوقف إلا برحيله عن عالمنا سنة 1992.
> طوال حياته السينمائية الطويلة، حقق ساتياجيت راي نحو ثلاثين فيلماً... أخفق في بعضها ونجح في بعضها الآخر. وفي بعض الأحيان، حقق أعمالاً فنية خالدة مثل «حجر الفلسفة» و «العدو» و «البيت والعالم» وبخاصة «صالون الموسيقى» و «شارولاتا».... لكنه في الحالات كلها، ظل أميناً لفن السينما ولمجتمعه وأصالته، كما لم يفته أن يظل منفتحاً على العالم وعلى الآخر. وتابع الابتكار الموسيقي والرسم والكتابة، قصصاً ونقداً سينمائياً، حيث أنه عاش فناناً كاملاً... ومات فناناً كاملاً... ليترك أعمالاً ظلت على الدوام هامشية... لكن في الهامش الذي يصنع الفن الكبير.
*ابراهيم العريس

هناك تعليق واحد:

  1. لاتصال للحصول على قرض سريع وسريع.

    أقدم قرض آمن وغير مضمون بنسبة 3٪.

    استعارة مبلغ القرض من 2000 إلى 5000،000jd.

    اختيار مدة القرض من سنة واحدة إلى عشر سنوات.
    saheedmohammed17@gmail.com

    ردحذف