بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 20 يونيو 2017

أُغنية هادئة: تشيوء الإنسان وثأرٌ من البراءةِ

مع تطور الحياةِ وتقديم النظام الرأسمالي لمزيد من الاحتياجات المُفتعلة، تتكاثر مشاكل الإنسانِ وتذوي عاطفتهُ ويُصبحُ قريباً من صورة الكائن الذي قدمته ماري شيللي في روايتها «فرانكشتاين»، إذ لم يَعُد له اهتمام خارج الأعمال الوظيفية فبالتالي لا يوجد ما يبعث على الاستغراب، إذا تَحولت المشاعر الإنسانية إلى سلعة مُتداولة في سوق العمل.
تُواكبُ الكاتبة الفرنسية من أصل مغربية ليلى سليماني في روايتها «أُغنية هادئة» التي فازت بجائزة غونكور 2016 وصدرت ترجمتها العربية مؤخراً، تداعيات تفشي ظاهرة المربيات المستأجرات في المُجتمع الفرنسي، بوصفه نموذجاً لمجتمعات حديثة، حيث تُشخصُ حالة النساء اللائي يتكفلنَ برعاية الأطفال الذين عندما يشبَون عن الطوق لا يتعرفُون عليهُنَّ كأنَّ بالكاتبة تُشيرُ إلى نوع جديد من العمال، وهم مُغْتَربون بما ينتجونهُ، وهذا يبدو واضحاً حين تتحدثُ صاحبة «في حديقة الغول» عما تتخيله بعض المربيات، اللاتي كلما صادفن مراهقين ربينَهُمْ لما كانوا صغاراً بأنهم يعرفونها، لكن الخجل هو ما يمنع التواصل بين الطرفين، لا مراءَ أن هذا الأمرُ له تأثير على الجانب النفسي لدى طبقة النساء القادمات من بلدان آسيوية وإفريقية، وبذلك تتجاوز ليلى سليماني الدائرة الضيقة لموضوعات راهن عليها الكُتاب الذين هاجروا إلى الغرب من بلدان ذات هوية إسلامية، إذ اعتمدوا المشكلات المنتشرة في بيئة المنشأ ثيمات لأعمالهم الروائية، بينما استقت الفائزة بجائزة غونكور مادة مسرودها من داخل المجتمع الذي تحتك به، دون أن يؤدي ذلك إلى إنسلاخ الرواية من أبعادها الإنسانية العميقة.

بداية درامية
لا يمكن توصيف ما تستهل به الروايةُ إلا بأنه صادم لإنَّ المشهد الذي يصورُ مسرح الجريمة، يأتي مناقضاً مع ما يوحي به العنوان، إذ ما تراهُ يذكرك ببدايات أفلام الجريمة التي يغيبُ فيها الحوارُ وتنقلُ لك الكاميرا صور سيارات الإسعاف ورجال الشرطة وأشرطة تُعزل مكان الحادث عن المارة، تمهيداً لإجراء التحقيقات. 
تبدأُ رواية ليلى سليماني على هذا المنوال أيضاً حشد من الناس ومقتلُ طفلة ونقلُ أخيها إلى المستشفى، فالأخير يعانى ضيقاً في التنفس، والأُمُ في حالة إغماء، ومن ثُمَّ يتوالى عرض الظروف التي اختارت فيها الأسرة لويز مربية لطفليها، إذ اتصل بولُ بمشغلتها السابقة لمعرفة المزيد عن شخصية المربية، يبدو أن ما يسمعه والد الطفلين مُشجع. فعلاً أن تعامل المرأة مع (ميلا، آدم) يفيضُ بالمودة، وتملأُ ما يتركه غياب مريم من فراغ عاطفي، فالاخيرة قررت مزاولة العمل عقب لقائها بزميلها الجامعي باسكال، وتجاذبا أطراف الحديث، وتلقيها رسالة نصية منه بعدما عرفت بأنَّ باسكال تدير مكتباً للمحاماة مبدياً استعداده لمناقشة فكرة عودة زميلته إلى العمل، إن هي لديها رغبة في ذلك الأمر. وجدت مريم في عرض باسكال فرصة للخروج من رتابة حياتها العادية، سرعان ما انغمست في تفاصيل عملها أحياناً تقتضي طبيعة العمل أن تغادرَ البيت للاحتجاج على قرار اعتقال أحد المتهمين، وبذلك تطول أوقات العمل ما يجعلُ اللقاء بينها وبين زوجها بول أمراً نادراً، فهو بدوره يقضي جُلَّ وقته في الاستديوهات ملبياً مطالب المغنيين في تسجيل الأصوات وتوزيع الموسيقى، لذا تنظمُ المربية شؤون البيت، بل تعوض الوالدين في حضور الاجتماعات المدرسية. تقوم لويز حتى بما ليس ضمن لائحة واجباتها، ويذيعُ صيتها كطباخة ماهرة بين أصدقاء بول، على الرغم من توبيخ مديرة مدرسة (ميلا) لمريم متهمة الآباء والأمهات بالإهمال، كما حملتها حماتها مسؤولية مرض الابنة،غير أن كل هذا لم يَعُدْ يؤثر على مسار المحامية النشيطة، لكن بجانب الهدوء الذي يسودُ عالم أسرة (بول ومريم) حيثُ ساهمت لويز في بنائه، ثمة عالم آخر مشحون بالتوتر والتوجس من تضخم المشاكل، تتداعي أركانه يوما بعد اليوم هذا هو شكل الحياة الخاصة للمربية لويز، إذن يتنقلُ الراوي العليم الذي هو وجه آخر من الذات الكاتبة بين حيوات لويز، ويستبطنُ سرائر شخصيتها، إضافة إلى ذلك يمتازُ أُسلوب الكاتبة بالتناوب بين المشاهد بحيثُ لا يسترسلُ السردُ في رصد موقف معين، إنما يتحولُ من مشهد إلى آخر، بعدما يصحَبُك الراوي في رحلة أسرة (بول) إلى اليونان برفقة المربية والاستجمام في جزيرة سيفنوس، سينطلقُ الراوي من وجهة نظر السيدة روزغرينرغ لوصف شخصية لويز، والانطباع الذي ستأخذه منها بساعات قبل وقوع الحادث، كما يتضحُ في السياق نفسه مصير ابنة المربية (ستيفاني) التي هربت إلى الجنوب ويُذكرُ سبب اختفاء ستيفاني، فوجودها لم يعجبْ زوج الأمِ جاك مع أنها أخذت تساعدُ الأم في بعض الأمور الخاصة برضاعة الأطفال، أخيراً تغادرُ هذه الأجواء الخانقة، مُثيرة السؤال، هل تنجح في صناعة حياة أخرى مغايرة لما تعيشهُ الأمُ؟ بهذا يكون الضوءُ مُركزاً على شخصية لويز وعلاقاتها مع فرانك الرسام، الذي أبى الإقرار بإن ستيفاني ابنته من المرأة التي تخدمُ أُمه العجوز جونيفيف، بل هو نصح لويز بإسقاط الجنين، زدْ على ذلك فإنَّ الكاتبة تُمرر المواقـــف التي تَنُمُ عن الشعور بالاستعلاء لدى الأُسر التي تشتغلُ لديها لويز، فآل روفيي لا يعجبهم وجود ستيفاني ابنة المُشغَلة في بيتهم، ولا اختلاطها بأطفالهم. كما يتضايقون عند رؤية أمارات الشعور بالاستمتاع بادية على ستيفاني، كأن الاستمتاع ليس لهذه الطبقة المسحوقة، أضف إلى ذلك ما تم إيراده في سياق هذا العمل من مقاطع سردية بصيغة خبرية كلها تهدف إلى إبانة التناقضات التي تُفندُ صحة الصورة التي تخيلناها عن الغرب، باعتباره قطعة من الفردوس.
بما أنَّ لويز تستقطبُ اهتمام المتلقي، وتظل محوراً لكل الوحدات السردية، لذا ما انفكَّ السؤالُ عن الدافع وراء ارتكاب الجريمة يشغلُ ذهن القارئ، وذلك يعتبرُ عاملاً للحفاظ على عنصر التوتر الدرامي طوال الرواية، إذ أنَّ شبح الجريمة يلوح في تلافيف كل مفصل، وما تندمجُ في بناء القصة الأساسية من قصص أخرى مثل ما ترويه وفاء عن رحلتها من الرباط إلى باريس، وعملها في أحد الفنادق ومن ثم زواجها التمويهي بيوسف للحصول على مستندات ضرورية للحصول على الجنسية الفرنسية، إذ اختارت الكاتبة الحديقة كونها مكاناً مفتوحاً وعاماً للقاء بين وفاء ولويز وغيرهما من المربيات من الأجناس والألوان المُخْتَلِفة، بحيثُ تبدو الحديقة بابل العصر الحديث، وسوقاً للبحث عن المربيات، كل ذلك يُقربُك أكثر من الحدثِ الذي يستندُ إليه البرنامجُ السردي، كما تعولُ الكاتبةُ على مشاهد وامضة لتعزيز القناعة بتفاقم ظاهرة التمييز العنصري، حيثُ يتعجبُ أفرادُ أسرة بول حين مصادفتهم لويز في الشارع تمشي لوحدها، تنظر إلى واجهة المحلات، ما يعني أن هؤلاء لا يتصورون وجود حياة أخرى لمربيات خارج ما يحددونه لها في منازلهم، كما تتعرض لويز للتوبيخ من صاحب المنزل الجشع الذي يستغلُ المغتربين بطريقة أخرى. تتراكم المشاكل ما ينعكس على طبيعة العلاقة بين مريم ولويز، هذا من جانب وما تمر به المربية من سوء الأوضاع والاحتقان النفسي، من جانب آخر يقودكَ من جديد إلى النقطة التي انطلقت منها الرواية، إذ تبدأُ النقيبة نينا دورفال في شارع هوتفيل بإعادة تمثيل الجريمة، ولحظة مقتل ميلا على يد المربية التي كانت تُهْدهدُ بأغنياتها الطفلين، قبل أن يدفع بها الغضب الثاوي في أعماقها إلى دائرة الإجرام، تُحسبُ للكاتبة دقة الاختيار للموضوع، ومن ثُمَّ أبانت مشكلة لم يسبق لغيرها مُقاربتها بهذا الأسلوب المُكثف والمشوق، كما برعت الكاتبة في توزيع مادتها بطريقة تولد فائضاً من المتعة أثناء قراءتها.
٭ كه يلان مُحمَد كاتب عراقي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق