بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 20 يونيو 2017

«النزعات المادية...» لحسين مروة: ... وسُجّلت ضد «مجهول»!

«وقف البحث في هذا الكتاب عند ابن سينا، بوصف كونه نهاية مرحلة نضج الفلسفة العربية- الإسلامية في المشرق. وبعد نحو قرن من زمن ابن سينا استأنفت هذه الفلسفة، في بلاد المغرب العربي، كفاحَها المجيد بوجه الإرهاب الفكري الرجعي الذي حمل الغزالي رايته بضعة أجيال. وقد تمثّل هذا الكفاح بفلسفة ابن رشد والتيار الرشدي التقدمي. إن مؤلف هذا الكتاب سيواصل دراسة تلك المرحلة الأخيرة للفلسفة العربية- الإسلامية فور الفراغ من مهمات هذا الجزء من الكتاب». بهذا الوعد اختتم
يومها المفكر اللبناني حسين مروة قرابة الألفي صفحة الغنية التي تألف منها الجزآن الأولان من سفره الضخم «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» الذي صدر في بيروت أواخر سنوات السبعين ليشكل نوعاً من عودة الى التراث ندر مثيلها في ذلك الحين على رغم كثرة الكتب المؤلفة أو المعربة التي صدرت حول الموضوع نفسه. كان وعداً انتظره كثر، لكن المؤلف لم يتمكن من الوفاء به لسبب خارج تماماً عن إرادته: فيما كان هو يشتغل عليه بجهد ودأب وتفانٍ قام مرتزقة طائفيون متخلفون باغتياله وتجاوز الثمانين من عمره داخل منزله. يومها كان كل شخص يعرف مقترفي الجريمة أو على الأقل المحرضين عليها من الذين كانوا يريدون إفراغ الساحة الفكرية العربية من أي صوت تنويري، لكن الحزب الذي ينتمي اليه مروة وأفنى عمره وضحى كثيراً من أجله، لم يجد من يوجه اليه الاتهام سوى «القوى الظلامية المتصهينة». فالتحالفات السياسية كانت تفعل فعلها منذ ذلك الحين.
> والحقيقة أن انتماء مروة، أحد كبار المفكرين العرب الى ذلك الحزب، كان أيضاً وراء ما يشبه التجاهل الذي قوبل به الكتاب يومها، مع أنه كان واحداً من دراسات نادرة دنت من تاريخ الفكر العربي- الإسلامي بمثل تلك الموسوعية والتحليل في عمل استغرق من الرجل أكثر من ربع قرن. والحقيقة أن الذين استنكفوا عن مناقشة الكتاب، لم يفعلوا انطلاقاً من اعتراضهم على سياقه البحثي، أو تبحّره في تحليل مواضيعه أو حتى أسلوبه العلمي في تحليل تاريخ كان لا يفتأ حتى ذلك الحين يُحلَّل بصورة مثالية على خطى المستشرقين الكثر الذين كانوا دائماً أول من أولوه اهتمامهم، بل انطلاقاً من ماديته المعلنة. بل المادية التي تشكل جوهر الكتاب وموضوعه الأساس بدءاً من عنوانه. فعلى عكس ما يفعل عادة أصحاب الفكر المثالي، ومهما كانت نواياهم الفكرية طيبة، آثر حسين مروة أن يرسم صورة عميقة لتاريخ الفكر، الفلسفي بخاصة، في سياق التاريخ الإسلامي- العربي، إنطلاقاً من خلفياته الاجتماعية التي عرف في أحيان كثيرة كيف يربطها بالواقع الاقتصادي ما قارب سياق عمله من أشغال مدرسة الحوليات الفرنسية. أي أن ذلك التاريخ الفكري- الاجتماعي- الاقتصادي الذي اشتغل عليه مروة، أتى أشبه بأن يكون تاريخاً شاملاً ودقيقاً للمنطقة نفسها التي امتدت في بعض لحظات ذروتها السياسية والعسكرية، من حدود الصين الى الجنوب الأوروبي والمحيط الأطلسي، لكنها امتدت فكرياً الى أبعد من ذلك. ويمكننا أن نقول إن هذه «العولمة» الفكرية الإنسانية هي التي حجبت الاهتمام نسبياً عن عمل مروة الضخم، كما يمكننا أن نقول إنه ساهم هو نفسه في هذا إذ ومنذ مقدمة كتابه نراه لا يخفي «نواياه الإيديولوجية» مستبقاً تحليلاته. زد على ذلك أنه إذ توقف في الجزء الثاني عند ابن سينا، رأى كثر من الذين تفحصوا الكتاب سطحياً أو لم يتصفحوه أبداً أنه ينحو في اتجاه مذهبي!
> ومن هنا هول الجريمة الفكرية، ناهيك بالجريمة الإنسانية التي اقترفها قتلته الذين سيظل مطروحاً السؤال عما إذا كانوا، حين دخلوا بيته مدججين بالسلاح والحقد في شباط (فبراير) 1987 في قلب العاصمة بيروت، وقتلوه من دون أن يرف لهم جفن، يعرفون، حقاً، من هو؟ وهل كان أحد أنبأهم أن الذين كلفوا بقتله هو واحد من العقول العربية الناضجة، ومن أبرز التنويريين العرب المهتمين بالفكر الإسلامي؟ أم أن كل ما قيل لهم يومها، هو أن حسين مروة، عدو لطائفته، خارج عن اجماعها لمجرد انه صاحب فكر مختلف؟
> مهما يكن الجواب عن هذا السؤال، فإن القتلة المجرمين الذين كلفتهم قيادتهم بالاجهاز على حسين مروة، قضوا في ذلك اليوم على مفكر كبير كان يشعر، على رغم تقدمه في العمر، أن أمامه صفحات كثيرة لا يزال في إمكانه أن يكتبها، هو الذي كان يحلو له أن يقول انه ولد رجلاً وسيموت طفلاً. وكان يفرحه أن الظروف، على صعوبتها، كانت تتيح له تحقيق أحلامه ومشاريعه الكتابية. والدليل على ذلك انه كان أربى على الخامسة والستين حين بدأ ينجز كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية» الذي اعتبر، بالنسبة الى البعض، من الكتب التي تؤسس لنظرة جديدة الى تاريخ الفكر العربي- الإسلامي، وبالنسبة الى البعض الآخر مادة سجالية كتبها عقل موسوعي شاء من خلالها أن يسقط بعض أفكار اليوم السياسية والايديولوجية على الماضي. والحال انه مهما كان رأينا في ذلك العمل الضخم الذي أنفق حسين مروة سنوات طويلة من حياته لإنجازه، وكان ينوي أن يواصل العمل في أجزاء تالية له، حتى موته، فإن مما لا شك فيه أن ذلك العمل كان من أبرز الكتابات العربية في مجاله، وكان -في الوقت نفسه- إعلاناً مهماً وانعطافياً عن بدء اهتمام الماركسيين العرب -وحسين مروة كان من أبرزهم- بالتراث الفكري العربي- الإسلامي بعد ان أهملوه طويلاً.
> ولد حسين مروة خلال العشرية الأولى من القرن العشرين، ابناً لعائلة تقليدية من تلك العائلات التي كانت الأبرز في جنوب لبنان والتي اشتهرت بانكباب أبنائها على العلم. وهو بعد أن رافق أباه سنوات طويلة انضجته وحرمته من متع الطفولة، أرسل في العام 1924 الى النجف ليتلقى دراسة دينية تقليدية، وبقي حسين مروة في النجف وفي العراق طوال أكثر من عقدين من السنين، تلقى خلالهما الدراسة التقليدية بالفعل، لكنه تفتح في الوقت نفسه على الأفكار الأخرى وسط مناخ كان في ذلك الحين زاخراً بالانبعاث الوطني والفكري في العراق. وهكذا، الى قراءاته الدينية راح يقرأ الأدب بشغف ثم راح يقرأ الكتب الفلسفية، ثم أتى إعدام ثلاثة من قادة الحزب الشيوعي العراقي ليقربه من الفكر الماركسي، ما مهد لانخراطه لاحقاً في لبنان، في الحزب الشيوعي اللبناني حيث سيصبح واحداً من أبرز مفكريه، إضافة الى انكبابه على النقد الأدبي ليتزعم فيه خطاً دافع طويلاً عن «الواقعية» وتفرعاتها. لكن هذا كله سيكون لاحقاً، إذ قبل ذلك سيكتب في الصحف والمجلات، وسيخوض الشعر والأدب والنقد، حتى كان يوم في العام 1938 ترك فيه الدراسة الدينية في النجف وخلع العمامة، وصار جزءاً من الحياة الأدبية العراقية، حتى كان العام 1949 حين طردته سلطات نوري السعيد من العراق بسبب مشاركته في «الوثبة»، فعاد الى لبنان حيث راح يعمل في الصحافة، وتحديداً في صحيفة «الحياة» التي كان يملكها قريبه كامل مروة. واشتهرت كتابات حسين مروة في «الحياة» في ذلك الحين، خصوصاً أن اتجاهاته الفكرية والسياسية كانت تتناقض والتوجه العام للصحيفة. وفي تلك الفترة انضم حسين مروة الى الحزب الشيوعي اللبناني وصار، في شكل من الاشكال، مفكره الرسمي وناقده كما صار جزءاً أساسياً من الحياة الفكرية والثقافية في لبنان. واللافت هنا، أن الحنين الى المدرسة والتزود من العلم لم يفارقا حسين مروة، لذلك، بدلاً من أن يرتقي في مناصبه الحزبية، وهو الذي كان مؤهلاً لذلك، آثر عند أواسط الستينات أن ينصرف الى وضع مؤلفه الضخم، وهو عبارة عن أطروحة دكتوراه استثنائية، فسافر الى الاتحاد السوفياتي حين أتيح له ان يطلع على ألوف المخطوطات والوثائق، التي استخدمها في وضع «النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية» ذلك الكتاب الذي أتى مساهمة أغنت السجال حول التراث الإسلامي- العربي. وكان للكتاب من النجاح ما جعل حسين مروة يأمل في استكماله، بل انصرف الى ذلك بالفعل، لكن القتلة كانوا في انتظاره وقضوا عليه، هو الذي كان من أكثر المفكرين اللبنانيين شجباً للقتال ولاستخدام السلاح، وللقتل العشوائي الأحمق الذي ساد الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية في ذلك الحين.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق