بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 16 فبراير 2018

«أخبار من لا مكان» لوليام موريس: ذلك الحلم الضائع

منذ عقود طويلة من السنين يبدو المفكر والفنان الإنكليزي وليام موريس منسيّاً إلى حد كبير، إلا حين تخطر في البال واحدة من أقواله المأثورة التي، حتى هي، قد تستخدم دون أن يتنبه مستخدمها إلى أنها تخص ذلك المناضل الاشتراكي والصحافي والأديب الروائي والشاعر والمهندس ومبدع أوراق الجدران وشبابيك الكنائس المصورة و... ماذا أيضا؟ في الحقيقة، كان وليام موريس ذلك كله كما كان راعي فناني ما قبل الرافائيلية، وعلى رأسهم غابريال روزيتي، وداعمهم وقت «الحشرة». فهل نضيف أنه كان الحامل المؤسس للأفكار الاشتراكية التي انبثقت منها الفابية ثم يسار حزب العمال البريطاني والنظرية الثالثة (أنطوني غيدنز) في أزمان أقرب إلينا؟
> في الحقيقة كان وليام موريس نشاطاً لا يهدأ وقدرة على الابتكار لا حدود لها، وانتقائية في الخلق عزّ نظيرها. وربما كان هذا كله هو السبب الذي يجعله منسياً إلى حد كبير في أزمان التخصص، وضيق الأفق. ومع هذا ما إن تذكر اسم موريس وتستعيد إنجازاته حتى تصيبك دهشة كبيرة. ثم تتذكر أن ثمة في أماكن عديدة من عالم اليوم وفنونه ما كان ينبغي أن يذكّرك به، لولا الجحود: مكتبة سياسية شهيرة في ليفربول سيقال أن بعض أفراد فريق البيتلز نهلوا بين جدرانها ثقافتهم العمالية؛ فرقة مسرحية؛ فيلم متوسط الطول حُقّق ليتابع رحلة نهرية يقوم بها موريس عبر نهر التاميز بحثاً عن الاشتراكية والجمال؛ وربما أخيراً معرض فني أُقيم في لوزان السويسرية لأعمال ستة فنانين إنكليز معاصرين... ناهيك بالمغني الشعبي ليون روزلسون وأغنيته الأشهر «الإتيان بالأخبار من لا مكان». وهنا قد يعترض المرء متسائلاً: ولكن ما علاقة هذا كله بوليام موريس؟
> الجواب بسيط: كل هذه تحمل عنواناً واحداً هو «أخبار من لا مكان» وهو العنوان الذي أعطاه موريس في العام 1890 لروايته الأشهر التي نشرها على حلقات في صحيفة «الكومونويل» قبل أن يصدرها في كتاب. ومن البديهي القول إن كل المؤسسات والأعمال التي حملت هذا الاسم كانت تعرف أنها تستعيره من عنوان رواية موريس. ولكن هل نحن هنا حقا أمام رواية، بالمعنى الأدبي للكلمة؟ الجواب: لا، فالمناضل الاشتراكي الخلاق، وسائراً في هذا على خطى كبار المفكرين والفلاسفة، الإنكليز خاصة، الذين عبّروا عن أفكارهم في أزمان مختلفة، عبر تلك النصوص التي أتت كنوع من اليوتوبيات الباحثة عن عوالم تبدو في ظاهرها خيالية تقف خارج كل زمان ومكان، استعمل أسلوب «المدن الفاضلة» هذا، كي يبث أفكاره ويعبّر عن أحلامه، ويرفع من معنويات وهمم المناضلين المتحلقين من حوله. لكنه لم ينس في طريقه أن يضفي قدراً لا بأس به من المتعة على كتابة أرادها تعليمية وربما وعظية أيضاً، في نهاية المطاف.
> تبدأ رواية «أخبار من لا مكان» مع بطلها وراويها، وليام غيست (ضيف) الذي لن يطول بنا الأمر قبل أن ندرك انه ليس سوى الأنا/ الآخر للكاتب نفسه، وقد غرق ذات يوم في سبات عميق يفيق بعده في زمن آخر غير زمنه. في زمن تبدلت أحواله وأضحى مجتمعاً اشتراكياً تدار فيه وسائط الإنتاج إدارة ديموقراطية لصالح الخير العام. وهذا المجتمع الذي يحلم به غيست بعد عودته من اجتماع عقدته رابطة للاشتراكيين ينتمي إليها، سيتبين للراوي أن ليس فيه ملكية خاصة ولا منظومة نقدية ولا مدن كبرى ولا سلطة حاكمة ولا محاكم ولا طلاق ولا سجون وبالتالي لا تراتبية طبقية على الإطلاق. إنه كما سوف يكتشف غيست، بالتدريج، المجتمع المثالي الذي حلم به كل المفكرين المثاليين في التاريخ. ولكن مع فارق أساسيّ سوف يتوقف الراوي عنده طويلاً.
> فإذا كان مؤلفو الكتب اليوتوبية، بل كذلك منظّرو المجتمعات الاشتراكية وصولا إلى كارل ماركس وفريدريك إنغلز، قد اعتبروا العمل ضريبة لا بد للإنسان من دفعها مقابل حياته الرغيدة، مع السعي دائماً للتقليص من زمن العمل لصالح أزمنة الفراغ واللهو وساعات الكسل -وهو ما وصل إلى ذروته في الكتيّب الذي وضعه بول لافارج أحد أصهرة ماركس بعنوان «الحق في الكسل»-، فإن ما يميّز «أطروحة» وليام موريس، هو ذلك الإيمان المطلق بفضائل العمل. فالعمل بالنسبة إلى بطل روايته متعة لا ضريبة. وإذا كان المجتمع الزراعي، ذو الحظوة في ذلك التنظيم الاقتصادي المهيمن على الكتاب وعلى أفكاره، يعمل بشكل جيّد إلى درجة إلغائه الصراعات والبؤس وكل ضروب الحاجة، فما هذا إلا لأن أفراد هذا المجتمع يجدون لذّتهم القصوى في العمل وبؤسهم كلّ البؤس في الكسل.
> تلكم عناصر أساسية في هذه الرواية، لكنها عناصرها الفكرية التي تمثل واحداً من وجوهها فقط. وذلك لأن موريس سرعان ما يعيدنا إلى واقع أننا هنا في صدد عمل روائي له أحداثه وشخوصه وعلاقاته وحبكاته. وحتى، هنا، إذا كان هذا الجانب «الروائي» يبدو أقل قوة من الجانب الفكري لـ «أخبار من لا مكان» فإن ثمة في سرد الحكاية نفسها ما يبدو ممتعاً حقاً. وذلك بالنظر إلى أن الحكاية في ما هو وراء بعدها الفكري، تنقلنا إلى عالم يبدو بعيداً جداً عن العالم الفيكتوري الذي كان عالم إنكلترا في ذلك الحين. فنحن هنا في عالم المستقبل الذي سيبدو من فوره للقارئ الحصيف نقيضاً تاماً للعالم الذي كانت تحكمه الملكة فكتوريا، فهنا يحاول موريس، وبنجاح لا بأس به، أن يمزج بين النزعة الرومانطيقية وبين الفكر الماركسي «الحقيقي» كما كان قد تجلى لدى ماركس، في المجالين الاقتصادي والفلسفي، طالما أن المثل الأعلى السياسي كان متحققاً بالفعل، من قبل استيقاظ وليام غيست في المستقبل. ومن هنا، فإن غيست ليس مضطراً للنضال لتحقيق عالم جديد كان في يقظته يسعى إليه. هذا العالم تحقق وها هو العجوز هاموند يقوده من يده في تجوال فيه يشرح له ما حدث من تطورات، لكنه يعلمه في الوقت نفسه كيف يتعايش مع إنسانيته الجديدة التي تقوم على الحب. وفي هذا السياق يلعب الزوجان الشابان ديك وكلارا اللذان يلتقيهما غيست في تجواله، دوراً أساسياً في إدخاله الحياة العاطفية التي لا ينبغي أن تنفصم عن الحياة السياسية. ترى أفلا يخيّل إلينا أمام كل هذه العوالم التي تبدو بالفعل كأحسن العوالم الممكنة، أننا نعيش نقيض ما سوف يعدنا به كتّاب مثل جورج أورويل وألدوس هكسلي وحتى راي برادبري، مرعوبين في أعمال لهم - مثل «1984» و «أفضل العالم الممكنة» و «فهرنهايت 452» - تبدو في نهاية الأمر وكأنها الرد القاطع على تفاؤلية وليام موريس التي عبّر عنها، ليس فقط في هذه الرواية، بل كذلك - وبشكل أخصّ - في نشاطاته الصناعية والفكرية والإبداعية التي لا يمكنها بأي حال، الانفصال عما تقوله رواية «أخبار من لا مكان»؟
> مهما يكن، لا بد أن نذكّر هنا، بأن كتابات وليام موريس ونضالاته كانت لا تزال تنتمي إلى زمن التفاؤل، يوم كانت الثورة والاشتراكية تعنيان الكثير وتشكلان حلم الملايين. بعد ذلك فقط، وبعد ذلك بعقود طويلة، أي بعد أن تحولت اليوتوبيا إلى واقع أوصلته الستالينية إلى أسوأ تجلياته مدمرة الحلم واليوتوبيا والمثل الأعلى مرة واحدة، كان ظهور أورويل وأصحابه ممكناً وضرورياً. أما قبل ذلك، فإن الضرورة كانت تملي ظهور وليام موريس ولا سيما حاملاً أخباره «الآتية من اللامكان» حاملة للإنسانية أملاً، كان من حسن حظ وليام موريس أنه مات في العام 1896 أي قبل أكثر من عقدين من تحقيق ثورة 1917 الروسية لذلك الحلم، وبالطريقة التي نعرف.
> وعلى رغم المصير الذي آلت إليه أحلام وليام موريس المولود في العام 1834، فإن الرجل سيبقى، في تاريخ الفكر والفن والنضال، واحداً من الكبار الذين عرفهم النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هو الذي ولد لأسرة ثرية لكن دراساته الجامعية قادته إلى إبداعات القرون الوسطى، وشغفه بالفلسفة قاده إلى الأفكار اليوتوبية الكبرى لفلاسفة مثل أفلاطون وفرنسيس بيكون وغيره من أصحاب المدن الفاضلة، لتقوده تجارب الاشتراكيين الخياليين (ولا سيما السان سيمونيين وإوين) إلى العمل الاشتراكي في الصناعة، ناهيك بكون فنون عصر النهضة قد أوصلته إلى الالتحام بفناني ما بعد الرافائيلية، كما أشرنا، وعلى رأسهم روزيتي، ولكن أيضاً إدوارد بورن جونز الذي ظل حتى النهاية صديقه المقرب وملهمه فنياً، إلى جانب المهندس فيليب ويب الذي شيّد معه الصرح العمراني المعروف بـ «البيت الأحمر».
* ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق