بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 24 فبراير 2018

القصة الكردية في سياق التطور السياسي والاجتماعي

في كتاب جديد صدر له العام الفائت بعنوان «القصة القصيرة الكُردية المعاصرة»، يتناول الشاعر والكاتب الكُردي فرهاد شاكَلي نشأة وتطور القصة القصيرة الكُردية التي تعود أصولها إلى العقد الثاني من القرن العشرين. ويلقي الكتاب، الذي نشرته جامعة أوبسالا في السويد باللغة الإنجليزية، الضوء على كل تلك العتبات التي تسهل الدخول إلى عالم القصة القصيرة الكُردي الذي شهد في النصف الثاني من القرن الماضي، تطوراً ملحوظاً في البناء والسرد وطرح القضايا الاجتماعية والسياسية، ناهيك باتباع الأساليب الكتابية الحديثة. وفي الحقيقة، هناك أكثر من عتبة للبحث عن تاريخ ولادة القصة الكُردية، ذاك أن النثر لم يغب عن الأدب الكردي من جهة، ولم تغب روح القصة عن الشعر، والسرد الاحتفالي الاجتماعي والديني، من جهة أخرى. يدفع هذا السبب الكاتب إلى وضع ولادة القصة الكُردية ومراحل تطور مضامينها وأشكالها الجمالية في سياق الأوضاع السياسية والاجتماعية التي مرّ بها المجتمع الكُردي وتأثير تقسيم كُردستان على اللغة والثقافة والأدب، والتقاليد الاجتماعية بطبيعة الحال.
قبل الحرب العالمية الأولى بعام واحد، دخلت مفردة «Çîrok» أي القصة إلى خزين اللغة الكُردية. ونشرت مجلة «يوم الكُرد» الفصلية نصاً نثرياً للكاتب فؤاد تمو بعنوان «القصة»، أي أن القصة كانت عنواناً للنص والجنس الأدبي معاً، وليس معروفاً إلى اليوم من وضع هذا العنوان العام، الكاتب أم المحرر، إنما المعروف هو أنه أصبح نافذة لاستيلاد تسميات أخرى لاحقاً. في العقدين الرابع والخامس من النصف الأول من القرن ذاته، نشرت كل من مجلة «هاوار» و«كلاويز» نصوصاً قصصية ضمن تصنيف الجنس الأدبي ذاته، إنما لكل نص عنوان خاص به، أي أن القصة صارت جنساً أدبياً. وفي العقد الأول من النصف الثاني من القرن ترجم الشاعر عبد الله كوران نصوصاً قصصية إنجليزية إلى اللغة الكُردية واستخدم للمرة الأولى في تاريخ الأدب الكُردي عنوان «القصة القصيرة»، كما حدّث اسم «كاتب القصة» كما كان يكتب قبله وبدله بـ«القاص». وكان للتحديث الذي أجراه كوران تأثير كبير ليس على مسار التسمية فحسب، بل على مضامين وأشكال القصة الكُردية أيضاً، ذاك أن قصصاً أجنبية لم تترجم إلى اللغة الكُردية من قبل.
لا يتوقف فرهاد شاكَلي عند هذه المرحلة لنفض الغبار عن جدران غرفة ولادة القصة الكُردية، بل يغور في تواريخ معاني القصة في الأدب الكُردي، أي تواريخ تلك البيئات الأدبية والدينية والاجتماعية المختلفة التي تشكلت منها الملامح الأولى للقصة، وتميزت بعناصرها وأشكال سردها. وتتوزع هذه البيئات بين فترات زمنية متباعدة، إذ لا يمكن وضعها في كرونولوجيا محددة. وإلى جانب الدور الذي لعبته الصحافة الكُردية بعد ولادة أول صحيفة كُردية تحت اسم (كُردستان) في القاهرة عام 1898 في نشر الكتابة النثرية، لعبت مراكز وحلقات دينية سبقت ولادة صحيفة «كُردستان»، دورها أيضاً، في التأسيس للكتابة النثرية. وما يريد الكاتب قوله في هذا السياق، هو أن القصة لم تغب عن عالم الشعراء الكُرد حيث برزت أسماء غالبيتهم من خلال المراكز الدينية والجوامع، إنما طغيان الشعر هو الذي غيّبها؛ ففي القرن السادس عشر والسابع عشر كان يستخدم كل الشعراء الكلاسيكيين مثل ملا الجزيري وأحمدي خاني وفقي تيران عناصر القصة في نصوصهم الشعرية، أو يكتبون القصة شعراً، كما في ملحمة «مَم وزين» للشاعر أحمدي خاني.
في القرن الثامن عشر برز نوع آخر من الحكاية الكُردية لدى الكتاب الكُرد مثل شيخ حسين قاضي وملا محمود بايزيدي، وكانت كلمة «الحكاية» هي الرائجة لتسمية النصوص، الدينية، الفولكلورية أو الملحمية كما نجدها في حكاية «مولودنامة» لشيخ حسين قاضي أو «العقيدة الكُردية» للشيخ مولانا خالد النقشبندي الشهرزوي. لا تشكل هذه النصوص بالنسبة للكاتب بدايات أو محاولات لولادة القصة الكُردية، إنما يحاول من خلالها الولوج إلى الجانب التاريخي للفن الحكائي وجذوره في الثقافة الأدبية الكُردية. ونجد في السياق ذاته بحثه عن معرفة الكتاب والشعراء الكُرد في القرن الثامن عشر بالرواية ومعانيها الحديثة. ففي العقد الثالث من النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتب الشاعر الكلاسيكي حاجي قادري كويي في نص شعري عن ملحمة «مَم وزين» ما مفاده: بأنه، وكتاب عصره، كانوا على دراية جيدة بالصحافة والرواية. ويرجح الكاتب بأن الشاعر كتب هذا النص أثناء سفره إلى إسطنبول في تلك الفترة حيث اطلّع فيها على الصحافة والرواية الأوروبيتين.
وعلى الرغم من ظهور الملامح الأولى للقصة القصيرة الكُردية المعاصرة في بدايات القرن العشرين، فإنه لم تتضح تلك الملامح سوى في العقد الرابع والخامس، وذلك بتأثير مجلتي «هاوار» و«كلاويز» آنفتي الذكر. وفي النصف الثاني من القرن، مع تطور الحركة التحررية الكُردية والصحافة، شهدت القصة الكُردية تطوراً ملحوظاً، وبشكل خاص بين أعوام 1970 و1980 حيث نشطت حركة الترجمة من الآداب العالمية إلى اللغة الكُردية. واتصف النصف الثاني من القرن بشكل عام ببروز تيارات أدبية متوزعة بين الواقعية الاشتراكية والوجودية وأدب المقاومة بطبيعة الحال، وذلك بتأثير مباشر من التطورات التي شهدتها الميادين السياسية من جانب، وانتشار الآداب المترجمة من جانب ثانٍ. تالياً، تميزت القصة القصيرة الكُردية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بخريطة متنوعة من حيث المواضيع والأشكال الأدبية التي تلونها وترسم خطوطها. كما أنها اجتازت حدودها التقليدية المتمثلة بالتصنيفات الأدبية الرائجة مثل الواقعية والأدب الملتزم... إلخ، وصار بإمكانها تناول قضايا إنسانية شاملة مثل العزلة، الوحدة، هموم الفرد وخياراته، وحقوق المرأة وحريات التعبير.
بعد انتفاضة 1991 ضد نظام صدام حسين وتأسيس حكومة إقليم كُردستان، اتسم العقد الأخير من القرن بتحول نوعي وكمي في تطور القصة القصيرة الكُردية، حيث شهدت كُردستان العراق انتشاراً واسعاً في الترجمة المباشرة من اللغات العالمية إلى اللغة الكُردية، فيما كانت تتم الترجمة قبل ذلك من لغة ثانية، اللغة العربية تحديداً. إلى جانب ذلك ساعد ظهور دور نشر كثيرة، حكومية وخاصة، في السليمانية وأربيل على نشر أعمال قصصية للكتاب الذين لم تسنح لهم فرص للنشر من قبل. وشهدت الفترة ذاتها تنوعاً ملحوظاً ليس في اتجاهات الكتابة والنقد فحسب، بل في التطرق إلى المحرّمات الجنسية والاجتماعية في القصة.
خالد سليمان - كاتب كردي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق