بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 4 فبراير 2018


سامي عنان: فصل جديد من «مصر مجتمعا عسكريا»

يختلف تدبير إعتقال الرئيس الأسبق لأركان حرب القوات المسلّحة المصريّة الفريق سامي عنان بعد إبرازه نيّة الترشّح إلى الإنتخابات الرئاسية، وبتهمة العزم على هذا الترشّح دون مواربة، عن الوقائع «الطريفة» في مكان آخر، التي دفعت إلى ثني رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق عن الترشّح، بعد تكلّفه عناء «الشوشرة»، بسفره من الإمارات التي كان شبه منفي فيها، والتي عرقلت عودته «إراحة» للسيسي، ثم تبيّن أنّها كانت عملياً تريد إبعاد شفيق عن دائرة المتاعب.
يختلف مآل كلّ من الترشيحين، ولو أنّ النتيجة الإجمالية هي خوض عبد الفتاح السيسي الانتخابات الرئاسية مع خياله. فعلى الرغم من أن المرشّحين المحظورَين صعد كلاهما من العسكر، وأنّ شفيق رأس سابقاً أركان القوات الجوية، وشغل هذا المنصب لأطول مدة، إلا أنّه اكتسب «طابعاً مدنياً» مع الوقت، لا سيّما عند خوضه الانتخابات الرئاسية الحرّة الوحيدة واليتيمة بالاقتراع العام في تاريخ العرب الحديث، وتأهله إلى دور الإعادة في مواجهة المرشّح الذي ربحها، والمطاح به بمزدوجة انتفاضة شعبية وانقلاب عسكريّ بعد عام، الدكتور محمد مرسي. 
أمّا عنان فطابعه المدني محدود قياساً بشفيق، بل تهمته أنّه ما زال في الجيش، وعمره 69 عاماً اليوم، كضابط فار من تمارين الجندية إلى «اللهو» في الانتخابات. هذا «المذكور» كما وصفه بيان القوات المسلّحة لحظة اعتقاله تهمّته أكبر: «الوقيعة» بين هذه القوات وبين «شعب مصر العظيم» وفقاً لنص البيان. 
والمقصود هنا الوقيعة داخل القوات المسلّحة، وانقسام الجيش بين مرشّحين. في تموز 2013 أشاعت القوات المسلّحة أنّها تدخلت للإطاحة بمحمد مرسي كي لا تحدث وقيعة بين فئتي الشعب، المناهضة والمؤيدة له، قبل أن تنقض في ميداني رابعة والنهضة على الفئة الثانية. أما في مطلع هذا العام، فالقوات المسلّحة توجّه التهمة للمرشّح عنان بأنّه كان ينوي الإيقاع بينها وبين الشعب، وأنّه ما زال عضواً فيها كقوات مسلّحة ولا يحقّ التصرّف على كيفه، وهي تعتقله كإجراء عسكريّ روتينيّ يتعلّق بشؤون العسكر الداخلية والتراتبية، وليس على المهتمين بالفصل بين ما هو عسكري وما هو مدني حشر أنوفهم فيه. 
بهذا المعنى، يكون اعتقال عنان، وفرض الإقامة الجبرية من بعد المنفى على شفيق، شكلا من أشكال تثبيت الفصل بين ما هو عسكري وبين ما هو مدني. أي أنّه، إذا وضعنا أنفسنا مكان السيسي وما يمثّله، لن تكون المسألة بطشاً بمرشحين رغبة في الاستفراد بالسلطة، وتقويض أي شبهة ديمقراطية في الرئاسيات القادمة، بل لأنّ هؤلاء المرشّحين بالذات، وخصوصاً عنان، يمثّلان «تشويشاً» غير جائز على الجيش، ويحاولان نقل المعركة الانتخابية من خارج الثكنات إلى داخلها، فلزم بالتالي حسم هذه المعركة الانتخابية «داخل الثكنات» سريعاً، بالتي هي أحسن. 
نحن هنا أمام مآل من مآلات مقولة «مصر، مجتمعاً عسكرياً». 
عام 1962، أصدر المفكر المصريّ أنور عبد الملك كتاباً بالفرنسية تحت عنوان «مصر. مجتمعاً عسكرياً». ترجم هذا الكتاب لأكثر من لغة. بقي العنوان على حاله في الترجمة الإنكليزية، مع عنوان تحتي تفسيريّ يوضح أكثر اليوم محاور الكتاب: «النظام العسكري، واليسار، والتغيير الاجتماعية في ظل عبد الناصر». لم يكن مقدّراً في المقابل، الحفاظ على عنوان «المجتمع العسكريّ» في الترجمة العربية، التي اختارت للكتاب عنوان «الجيش المصري والمجتمع». والحق أنّ الكتاب المرجعيّ، لم يطوّر بالفعل نظرية عن «المجتمع العسكري» بقدر ما تناول تلك الفئة من العسكر الشاب، الآتي من البرجوازية الصغيرة، كفئة قائمة على مجموعة تناقضات ومفارقات، منها أنّها استولت على الحكم بذهنية تفادي الثورة الشعبية، أو من زاوية نظر أخرى، لأنّ هذه الثورة الشعبية تأخّرت. في الحالتين، فإن ثورة «النخبة العسكرية» القادمة من وسط شعبي لم تتطور كثورة إسناد أو فتح مجال للثورة الشعبية، لكنها احتاجت في الوقت نفسه إلى مساندة الطبقات الشعبية لها، دون أن تتقلّص الهوة التي تفصلها كنخبة عسكرية استولت على السلطة عن عموم الناس. 
رغم حيوية أفكار عبد الملك وقتها، وغموض أفكار ومعالجات عديدة في الكتاب أو تقادم عدّتها، ورغم أنّ الكتاب ابن حقبته، وصدر لتقييم العشرية الأولى بعد 23 يوليو، وبإهداء لشهدي عطية الشافعي، المثقف الشيوعي الذي سقط شهيداً في معتقلات النظام، فإنّ إشكاليته الأساسية، الموجودة في عنوانه، إشكالية «المجتمع العسكريّ» كليّة الراهنية: فالمجتمع العسكريّ هنا لم يعد شكلاً غامضاً لتوصيف العلاقة بين تلك النخبة العسكرية الثورية البرجوازية الصغيرة التي استولت على السلطة، والتي لم تتعرّف على نفسها في أي من طبقات المجتمع بحدّ ذاتها، وحاولت في نفس الوقت ردم الهوة بينها وبين الشعب ككل، وأبقت على هذه الهوة بما أنّها تسعى إلى تفادي «الجدلية الاجتماعية» لاستعادة مصطلحات عبد الملك. المجتمع العسكري هنا هو الذي يتشكّل من العسكريين والعسكريين «السابقين – المستحيل أن يصيروا سابقين».. وهؤلاء «مدنيون بتفاوت». 
فعبد الفتاح السيسي هو «مدني» بشكل من الأشكال ما دام انتقل من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية، لكنه لن يبقى رئيساً للجمهورية لحظة واحدة إن حاول أن يتمّم حركة الانتقال هذه ويصير بالفعل «عسكرياً سابقاً». أساساً، مشكلة هذا «المجتمع العسكري» مع حسني مبارك بدأت يوم لم يفهم الأخير أنّ الجيش لا يتعرّف على جمال مبارك «ابن الضابط» كضابط من نوع آخر، وأنّه بهذا المعنى مختلف اختلافاً عميقاً عن حالة الجيش السوري، الذي لم يجد صعوبة حقيقية لـ»سيامة» بشار الأسد عسكرياً، وترفيعه كل الرتب بشكل متسارع بعد وفاة والده، حتى رتبة فريق.
طريقة نظر أصحاب القرار في العسكر المصريّ للأمور هي إلى حد كبير «صحيحة» فيما يتعلّق بسامي عنان. فهو من ناحية، مرشّح بات مدنياً، لكن خطورته على السيسي نبعت من كونه مرشحاً عسكرياً أيضاً، وليس «عسكرياً سابقاً» تماماً. وجد أصحاب القرار في العسكر إذاً أنّ وحدة «المجتمع العسكري» تمرّ من خلال اعتقال «المذكور». ليس بديهياً مع ذلك، أن يجد أصحاب القرار، وخصوصاً بعد اعتقال عنان، أنّ وحدة هذا المجتمع يؤمنها عبد الفتاح السيسي، أو أقلّه ليس بديهياً التعامل مع ظاهرة السيسي كظاهرة «تجسيدية» لوحدة هذا المجتمع. 
منذ سنوات، ينجح السيسي في تفادي أن تتحول علاقته مع باقي العسكر إلى ثنائية «سيسي والعسكر»، بمعنى أنه ليس هناك فصل بين الطرفين. لجوء النظام إلى اعتقال مرشحين بتهمة أنهما «غير مدنيين كفاية» كي يسمح لهما بأن تكون إرادتهما السياسية حرّة متفلتة من انضباط الجهاز، يعني أيضاً، نوعاً من ترسيم حدود، ولو طفيف في البداية، ولو افتراضي، بين كيان يدعى الجيش، وبين من يتولى رئاسة الدولة. فصول المجتمع العسكريّ الأكثر مشهدية لم تبدأ بعد.
٭ وسام سعادة - كاتب لبناني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق