بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 أبريل 2018

«قوة الأقدار» لفيردي: حب مستحيل وموسيقى عبقرية

ليس ثمة إحصاءات قاطعة يمكنها أن تفيدنا حقاً في هذا المجال، ولكن يمكن في المقابل الركون إلى حدس يقول لنا إن أوبرا «قوة الأقدار» للإيطالي جوزيبي فيردي هي ثاني أوبرا له من ناحية تقديمها وإعادة تقديمها بعد أوبراه الأشهر «لا ترافياتا» المأخوذة عن «غادة الكاميليا» للفرنسي ألكسندر دوما الابن. وهي تتقدم في هذا، حتى على أوبراه «عايدة» التي تعتبر أشهر أعماله على الإطلاق، منذ قدّمت للمرة الأولى هي التي كانت
كتبت بناء على طلب من إسماعيل خديوي مصر الذي أراد منها أن تفتتح أوبرا القاهرة في القرن التاسع عشر بالتزامن مع افتتاحه العالمي لقناة السويس. مهما يكن، لا بد من القول هنا إن «قوة الأقدار» تضمنت بعض أقوى الألحانت التي وضعها فيردي في مساره المهني، وبالتالي يمكن العثور على «تأثيراتها» في عدد كبير من الألحان التي «إقتبست» منها في أنحاء عديدة من العالم، بما في ذلك في جمل موسيقية لمحمد عبد الوهاب الذي لم يخف أبداً في أيّ حال أنه كان يقتبس جملة هنا وجملة هناك من فيردي لكي يعوّد الأذن العربية على الموسيقى العالمية. صحيح أن هذا الأمر يمكن أن يكون قابلا للنقاش، وحتى للرفض، لكن هذا ليس موضوعنا هنا. فموضوعنا هو تلك الأوبرا القوية التي عرف سيد الأوبرا الإيطالية من دون منازع، والموسيقي الوحيد الذي عرف كيف ينافس الألماني ريتشارد فاغنر في ميدان الخاص، كيف يضخ فيها وباكراً في حياته ومساره المهني، جزءاً كبيراً من عبقريته الموسيقية وقوة تعامله مع الألحان الميلودرامية البديعة.
> والحال أن أهمية «قوة الأقدار» التي لحنها فيردي للمرة الأولى عام 1862، تكمن هنا. ونقول إن موسيقارنا «لحنها للمرة الأولى» لسبب واضح وهو أن هذه الأوبرا قد لُحّنت وعُدّلت مرة عديدة، وربما نصف دزينة من المرات. إذ نعرف انخا إذ قُدّمت للمرة الأولى في مدينة سان بطرسبرغ الروسية عام 1962، عادت لتقدم تباعاً في روما (عام 1863 تحت عنوان «دون آلفارو») وفي مدريد في العام ذاته، ثم في نيويورك ومن بعدها فيينا (عام 1865) ففي بروكسل (في العام التالي) ولندن (في العام الذي يليه). والحقيقة أننا ما أعددنا هنا عروض «قوة الأقدار» الأولى في تلك المدن المتنوعة عبثاً، بل للإشارة إلى أن كل عرض من تلك العروض كان يشهد تعديلات وإضافات على العمل، موسيقية غالباً ولكن أحيانا من ناحية إضافة مشاهد أو إلغاء أخرى، بشكل لم تحظ بما يماثله أي أوبرا أخرى سواء كانت لفيردي أو لغيره. ولا بد أن نذكر هنا أن الأوبرا «المعيارية» التي انتهى بها الأمر الى الحضور في الريبرتوار العالمي والتي تقدّم اليوم على خشبات العالم كله هي تلك التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة «سكالا» ميلانو فس شباط (فبراير) 1869 تحت إشراف فيردي نفسه. إذ منذ ذلك الحين تم اعتماد هذه النسخة حتى وإن شهدت تقديمات الأزوبرا المتنوعة منذ ذلك الحين تقديمات مختلفة بين الحين والآخر، بل أحيانا نوعا من المزج بين عدة تعديلات، وفي واحدة من المرات، تقديما للأوبرا في نسختين متتاليتين. بيد أن هذه كلها تبدو لنا اليوم مجرد نزوات فنية لا تضيف الى العمل الأصلي كثيرا بالنظر الى استقرار نسخة ميلانو التي أشرنا إليها، ثم خاصة بالنظر الى ان فيردي، ولا أحد من بعده، أحدث أيّ تغيير في الأغنيات الرئيسية التي يضمها العمل ولا سيما منها، «ها أنذا منفية وحرومة من ديار طفولتي» التي تغنيها ليونورا في الفصل الأول؛ أو «أنا باريدا الرفيع المحتد» أغنية دون كارلو في الفصل الثاني؛ و»حين تُقرع الطبول» للغجرية برسيوزيللا في الفصل نفسه؛ أو حتى أغنية ليونورا حين وصولها الى ملجئها في الدير «ها قد وصلت الى هنا شكري ياإلهي...». والحقيقة أن في إمكاننا إضافة أغنيات خالدة عديدة إلى هذا السجل، ولكن يتعين علينا قبل هذا أن نتحدث عن موضوع هذه الأوبرا التي لحنها فيردي انطلاقاً من قصة عنوانها «دون آلفارو» للكاتب الإسباني آنخل دي ساآفيدرا، وقد الحق بها فصلاً من نص للألماني شيكر منتزعاً من مسرحيته «اللصوص».

> تدور أحداث «قوة الأقدار» بين إسبانيا وإيطاليا، وهي تتحدث، في المقام الأول، وكما حال معظم الأوبرات الميلودراميا، عن قصة حب مستحيل تقف الأقدار والصدف والخيانات وضروب سوء التفاهم عائقاً في وجهه. أما الغرام فهو بين الفتى دون آلفارو الشاب الآتي الى إسبانيا من جنوب أميركا حيث له أصول هندية وأوروبية في الآن عينه، والحسناءالدونا ليونورا إبنة المركيز دي كالاترابا. وكان يمكن لحكاية الغرام هذه أن تكتمل لولا أن المركيز لم يكن يريد لابنته أن تقترن بغريب لا يضاهي أصله أصلها وفيه عروق هندية «منحطّة» تبعا لمفاهيم تلك المرحلة – القرن السابع عشر على الأرجح، بالنظر إلى أن ثمة في خلفية الأحداث تواريخ محددة تدفع إلى هذا الإعتقاد كحرب الإنفصال النمسوية وانتفاضة الإيطاليين ضد النمسويين وما إلى ذلك. وهكذا أمام معلاضة المركيز لا يكون أمام العاشقين إلا أن يقررا الهرب معا. لكن الأب يفاجئهما فيما هما مجتمعان للإنطلاق في فرارهما، يقرر الفتى تحمّل كل المسؤولية لكنه فيما يستسلم راميل مسدسه أرضا، تنطلق من المسدس رصاصة تصيب الأب إصابة قاتلة ليموت وهو يصبّ لعنته على ابنته. وإذ ينتهي الفصل الأول هنا ننتقل في الفصل التالي الى نزل في قرية بعد عام من الأحداث الأولى لندرك ان أمورا كثيرة قد حدثت خلال ذلك العام. فليونورا قررت الانضمام إلى دير آلت على نفسها أن تمضي فيه بقية عمرها. أما أخوها الدون كارلو فإنه يسعى إلى العثور على أخته وحبيبها لكي يقتلهما إنقاذا لشرف العائلة وانتقاما لمقتل أبيه. وها هو يصل هنا إلى النزل متنكراً تحت سمات طالب للبحث عن العاشقين من دون أن يعرف أنهما قد انفصلا عن بعضهما أصلاً وأن أخته تصل بدورها إلى المكان في طريقها إلى الدير. وهنا إذ يلتقي الدون كارلو بالغجرية التي تقرأ له البخت تحثه هذه على التوجه الى إيطاليا لخوض الحرب هناك ضد النمسويين المحتلين. وفي لحظة إذ يكاد دون كارلو يلتقي أخته تتمكن هذه من الفرار لتصل الى الدير حيث يقام احتفال بانضمامها إليه. وينقلنا هذا المشهد في الدير الى الفصل الثالث الذي يدور في معسكر يقع في إيطاليا وفيه يلتقي مصادفة، ومن دون أن يتعرف واحدهما على الآخر، دون كارلو ودون آلفيرو الذي كان بدوره قد انضم إلى المتطوعين. وهنا إثر أحداث متتالية تتضمن إنقاذ دون آلفارو حياة دون كارلو يرتبط هذان بصداقة قوية توصلهما معا وباسمين مستعارين الى معركة فيلليتري – وهي معركة حقيقية جرت عام 1744 -، حيث يصاب آلفارو بجراح فيخيّل إليه أنه سيموت لا محالة، فلا يكون منه إلا أن يعود إلى صديقه بصندوق طالباً منه ألا يفتحه إلا بعد موته. صحيح أن آلفارو ينجو من إصابته لكن الفضول يكون قد استبد بكارلو دافعاً إياه إلى فتح الصندوق ليفاجأ أنه يحتوي على رسائل خاصة كما على... صورة أخته ليونورا. وهكذا يدرك كارلو حقيقة صديقه ويخوض الصديقان مبارزة عنيفة سرعان ما تتوقف، إذ يكتشف ضابط كبير خوضهما إياها. وهكذا ننتقل في فصل تال إلى الدير الذي يدخله دون آلفارو تحت اسم جديد هذه المرة هو «الأب رافائيل»، وأصلاً إلى جوار المنعزل الذي تقيم فيه حبيبته. بيد أن كارلو يصل بدوره ويلتقي آلفارو حاضّا إياه على مواصلة القتال حتى يقضي أحدهما على الآخر. وفي المشهد التالي تطالعنا ليونورا في معتزلها وهي تصلي كي تجد راحة لنفسها في الموت.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق