بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 5 أبريل 2018

غزة البطلة أشارت إلى النهج الصائب في التصدّي للدولة الصهيونية

جاءت المجزرة الشنيعة التي ارتكبتها الدولة الصهيونية إزاء مسيرة غزّة السلمية يوم الجمعة الماضي لتكشف مرة أخرى عن طبيعة تلك الدولة العنصرية والإجرامية، وهي التي يرى القائمون عليها أن الفلسطينيين والعرب من الأجناس الدنيا لا قيمة لحياتهم، على غرار نظرة ألمانيا النازية لمن صنّفتهم بين «البشر الدونيين» وأباحت إبادتهم. فيؤكدون يوماً بعد يوم أن دولتهم سائرة على درب إعادة إنتاج المعادلة النازية بنسخة معدّلةً بحيث يحلّ اليهود محلّ «العرق الآري» المتفوّق في العرف النازي، ويبقى العرب وحدهم في صفّ «الساميين» الذين ينتمون إلى حثالة البشرية حسب النظرية العنصرية المقيتة عينها. ومثلما يرى «العدل» الصهيوني أن قتل جندي إسرائيلي لرجل فلسطيني جريح وطريح يستحق عقاباً أقل مما تستحقه صفعة شابة فلسطينية لجندي إسرائيلي، تطلق الدولة الصهيونية نارها بغزارة على متظاهرين عزّل، ثم يبرّر زعماؤها المجزرة، بل يهنئون جنودهم على اقترافها.
وقد يبدو من المفارقة أن نقول مع ذلك إن غزّة البطلة أشارت إلى النهج الصائب في نضال التحرّر الفلسطيني. فقد يرى بعض المناضلين أن المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل إنما تثبت أن النضال السلمي لا جدوى منه إزاء الدولة الصهيونية، وأن العنف هو اللغة الوحيدة التي تفهمها. أما الفكرة الملازمة لمثل هذا الرأي، نظراً لكون الدولة الصهيونية متفوّقة عسكرياً على الفلسطينيين بما لا يُقاس، فهي أن السبيل الوحيد المتبقّي هو ما تسمّيه الاستراتيجية «الحرب اللا متناظرة» (asymmetric warfare). ويصبح المقصود هنا العنف على الأهداف السهلة، الذي كانت «العمليات الاستشهادية» الفلسطينية ضد المدنيين الإسرائيليين وجهه الأبرز في العقود الأخيرة.
من يعود اليوم إلى مثل هذا الاستنتاج إنما يقع من جديد في الفخ الذي نصبته الدولة الصهيونية منذ الانتفاضة المجيدة التي هبّت قبل ثلاثين عاماً في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967. فقد توخّت الدولة الصهيونية من خلال تصعيد حدّة قمعها للانتفاضة الشعبية دفع الفلسطينيين إلى الحيد عن نهج اللا عنف في مواجهتها واعتمادهم القتل الثأري بما يبرّر العنف الصهيوني. فتذرّعت إسرائيل بالعمليات الانتحارية في التسعينيات لتبني جدارها في الضفة الغربية وتضمّ من خلاله جزءًا جديداً من الأراضي الفلسطينية إلى دولتها بحجة حماية أمنها. وكذلك فقد استغلت إسرئيل وقوع رجال «السلطة الفلسطينية» في فخ استخدام السلاح (الذي أتاحت لهم الدولة الصهيونية حمله للذود عنها في إطار اتفاق أوسلو المشؤوم)، استغلت وقوعهم في ذلك الفخ خلال «انتفاضة الأقصى» قبل ثمانية عشر عاماً كي تمارس عنفها ضد أراضي 1967 بما لم يسبق له مثيل، مع استخدامها لكافة أسلحة ترسانتها بما فيها الطيران الحربي.
وهذا بالضبط ما تتوخّاه الدولة الصهيونية اليوم من جرّاء أحدث المجازر التي ارتكبتها إزاء الشعب الفلسطيني. فإن عنفها الشديد وغير المتناظر إزاء المسيرة السلمية التي قام بها أهل غزّة تدشيناً لحملة من النضال الجماهيري المسالم، إنما يدلّ ليس على عقم هذا الشكل من النضال، بل على نجوعه. والغاية الجليّة من هذا التوحشّ الذي تديره الدولة الصهيونية مثلما أدارت جماعة «داعش» توحشّها، أي بوصفه عنفاً تزيد غايته النفسية الإرهابية والسياسية عن غايته العسكرية، الغاية الجليّة من توحشّ الدولة الصهيونية هي تحديداً دفع الفلسطينيين إلى الكفّ عن نهج النضال السلمي الذي تخشاه إسرائيل أقصى ما تخشى، والعودة إلى ذلك العنف اليائس والعقيم الذي تفضّله. وهي بلا شك تنتظر بفارغ الصبر أن يقوم بعض المناضلين في غزة بالعودة إلى إطلاق الصواريخ بما يبرّر لها ارتكاب حلقة جديدة من تدمير القطاع وقتل أهله والقضاء بذلك على نضالهم السلمي.
ومن شديد الاحتمال أن تسعى الدولة الصهيونية إلى تنظيم مثل هذه الأعمال من خلال اختراقها للساحة الفلسطينية، الأمر الذي يفرض على أهل غزّة يقظة قصوى لتداركه.
ونثني في هذا الصدد على ما كتبه جمال زحالقة على موقع «عرب 48» يوم السبت الماضي، قائلا: « في ظل انسداد الأبواب أمام نهج التفاوض، الذي قاده ابو مازن والسلطة الوطنية الفلسطينية، وانسداد الأبواب أيضًا أمام المقاومة المسلّحة، التي حملت حماس رايتها، أصبح النضال الشعبي السلمي موضع اجماع فلسطيني على مستوى النخبة السياسية والجماهير الشعبية. من هنا فإن مسيرة العودة الكبرى هي انطلاقة جديدة ومبشّرة بمرحلة جديدة من النضال الفلسطيني، الذي يمكن أن يحظى بدعم شامل من الجميع، ويمكن ان يكون حجر زاوية في المصالحة، التي يتوق اليها الشعب الفلسطيني».
لقد حان الوقت حقاً ليعود الفلسطينيون بثبات إلى النهج الوحيد الناجع في تصدّيهم البطولي للدولة الصهيونية، وهو النهج الوحيد الذي من شأنه أن يثير حوله موجة تعاطف عارمة تجد لها ترجمة في تصاعد الحملة العالمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ولا سيما حملة المقاطعة، ذلك النضال السلمي الآخر الذي تكرهه إسرئيل أشدّ كره. هذا ويشكّل التضامن العالمي عنصراً حيوياً من عناصر التعويض عن التفوّق العسكري الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.
تلك هي أساليب «الكفاح اللا متناظر» الوحيدة الناجعة المتوفّرة أمام الشعب الفلسطيني، ومن الأهمية بمكان ألا تقع أي من جماعاته مرة أخرى في فخّ الحيد عنها.

٭ جلبير الأشقر-كاتب وأكاديمي من لبنان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق