بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 أبريل 2018

الرحلة إلى الشرق» في كتاب جامع: ديوان ذلك السحر الملتهب

لكلمة «الشرق» سحرها الذي يعود في العالم الغربي إلى أكثر من قرنين من الزمن... بل وربما إلى أكثر من هذا بكثير. فمنذ زمن بعيد يمثل «الشرق» حيزاً سحرياً وحلماً رومانسياً، حتى من قبل أن تتخذ الرومانسية بعدها الأكاديمي المتعارف عليه. ولكن منذ نحو ثلث قرن ونيّف، راح الشرق يتخذ دلالات مختلفة وراحت المؤلفات والكتب تتدافع إلى الساحات معلنة انبثاق زمن وحيز محملين بكل التوقعات والأخطار والآمال في فترة كان بالإمكان فيها بالطبع ربط المفهوم المستعاد لمصطلح «الشرق» بجملة من التطورات السياسية التي طرأت على ساحة العالم، منذ بزوغ فكرة العالم الثالث، وصعود الاستقالات، ثم تأكيد دول الشرق لذاتها على الساحة العالمية، وبعد ذلك حروب الشرق الأوسط، وأزمة النفط، و «الثورة الإسلامية» في إيران وحرب لبنان التي مهدت للمجازر العربية المتلاحقة. لقد قفز الشرق الى الواجهة بفضل كل هذه الاحداث المتواترة، ومع عودة «الشرق» القديم، عادت كتب الرحالة تنشر من جديد، وصارت للوحات المستشرقين أسعار مرتفعة في أسواق الفن.

> صحيح أن كثراً رأوا أن تلك الظاهرة قد لا تدوم طويلاً، أمام واقع عنف اليومي في الشرق، على امتداد آسيا كلها عموماً، وفي المنطقة الممتدة من افغاستان حتى الساحل اللبناني على وجه الخصوص... ولكن الاهتمام بدرجاته المتفاوتة قد لا يخبو أبداً. وفي هذا الإطار صدور كتاب ديواني جامع عن «رحلة الشرق» والتعليقات التي نشرت من حوله، جاء ليؤكد أن الظاهرة لا تزال في ذروتها. الكتاب عنوانه الكامل «الرحلة إلى الشرق: ديوان انطولوجي للرحالة الفرنسيين في الشرق خلال القرن التاسع عشر»، ويقع في أكثر من 1100 صفحة، تضم كل منها أكثر من 750 كلمة، أي أن مجموع كلمات الكتاب يزيد عن 800 ألف كلمة، ما يجعله أكبر «سفر» جامع في هذا الموضوع صدر حتى ذلك الحين. وينطلق الكتاب من فكرة تقول إن كلمة «الشرق» تحدد، في القرن التاسع عشر، حيزاً مشرقياً ينتشر من حول السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط: اليونان، تركيا، سوريا، فلسطين، مصر، مع عاصمتها جميعاً، إن لم تكن مركزها، إسطنبول. ويقول الكتاب إن ذلك الحيز المكاني كان حيزاً مختلطاً إسلامياً– مسيحياً، يحفل بالإمارات المتناقضة، وظل... حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، موضوع فتنة دائمة. ومن هنا، يقول الكتاب، كانت الرحلة الى الشرق تمثل بالنسبة إلى الفرنسيين، طقس عبور بورجوازي، يتم عبره الوصول إلى حقيقة مزدوجة، حقيقة المعرفة، وحقيقة الرغبة. صحيح أن الرحلة كانت منظومة سياحية في المقام الأول، لكنها كانت في الوقت نفسه اشبه بسفر رمزي سينتج، بذريعة استيعاب إرث ما، أيديولوجية حقيقية ضمن إطار ايديولوجية الاستيطان الاستعماري الهادئ.
> كان كتاباً فريداً من نوعه، فهو ليس دراسة ولا كتاب رحلات بالمعنى الخالص للكلمة، بل هو انطولوجيا... فتماماً كما أن هناك انطولوجيات للشعر وللمقالة وللقصة، شاء واضع الكتاب جان – كلود بروشيه، أن يجعل من كتابه انطولوجيا تضم مختارات معينة من كتابات الرحالة الفرنسيين الذين زاروا الشرق خلال القرن التاسع عشر ومن هنا كان من الطبيعي أن نلتقي على صفحات هذا الكتاب، بأصحاب كل تلك الاسماء التي اشتهرت بسفرها الى الشرق، وبكتابتها عنه من أمثال موريس باريس، وغوستاف فلوبير وأوجين فرومنتين والكونتيسة دي غاسبارين، وتيوفيل غوتييه وشارل مورا وجيرار دي نرفال وفولني... عشرات غيرهم. ولقد كان اختيار واضع الكتاب صائباً حين جعل ديوانه (أو انطولوجيته) هذا، ينقسم إلى فصول مكانية. فهو يبدأ بفصل عنوانه «اقترابات» هو أشبه بكلام حول عمومات السفر إلى الشرق والأماكن المعبورة في أوروبا. والفصل الثاني وعنوانه «اليونان» ينقسم بدوره إلى أجزاء حيث نقرأ مقتطفات لعدد من الكتاب عن اليونان النيوكلاسيكية، ومثلها عن اليونان المحررة، ثم عن مملكة اليونان، وأخيراً عن اليونان نهاية القرن.
> بعد اليونان تأتي آسيا الصغرى (جزر وسواحل بحر إيجه، والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، ازمير، في داخل آسيا الصغرى، بروسيا) ومع قراءة اجزاء هذا الفصل نحس بعمق اختيار واضع الكتاب الذي شاء ان يقود قارئه في رحلة تعليمية يدخله عبرها إلى الشرق عبر بوابته الغربية، دخولاً متعدد الأصوات، يأخذ مسار الكتاب الذين قاموا بالرحلة نفسها. ومع إنجازنا مع الكتاب المتعدد الاصوات، لصور آسيا الوسطى نكون قد وصلنا إلى الاستانة (إسطنبول)، ويكاد القسم المتعلق بعاصمة السلطنة العثمانية آنذاك، يشكل الفصل الأكبر من الكتاب: ففي إسطنبول يتكثف الشرق ويتخذ كل مداه، وتجتمع هنا – أو تكاد – كل تلك العناصر التي تم التوافق الرومانسي على أنها تشكل سمات الشرق: الأعياد، الناس في الشوارع، النساء المحجبات، التوابل، الأسواق الصاخبة، الأولاد اللاهون في حرية مطلقة، السحرة، صانعو الأحجبة، نوافير المياه في الشوارع والساحات، صيام رمضان، المسرح، مسرح خيال الظل ومسرح الكراكوز. في إسطنبول نتجول مع الطبيعة برفقة باتوسكي وشاتوبريان. ثم نزور المشاهد الرومانطيقية باعين فوربان ولامارتين. ومن هناك ننتقل إلى حياة الطبقات البورجوازية مع شارل رينو ومارسيل دو كام. أما ليلة رمضان فنسهرها مع دي نرفال على وجه الخصوص، فيما تعطينا الكونتيس دي فاسباران وصفاً حياً لإسطنبول في عهد السلطان عبدالعزيز.
> من اسطنبول يكون الانتقال الى فلسطين، مهد المسيحية، حيث يتوقف الرحالة مطولاً في مدينة القدس وبيت لحم، فهم نصارى، وبوصفهم نصارى في زمن صار فيه الدين، لأنه شرقي، يشكل جزءاً اساسياً من مسار المعرفة، كان لا بد لهم من الحج الى القدس. وإذ يحجون يكتشفون ان المسيح في القدس هو مسيح نوراني لا يعرفونه، مسيح آخر غير مسيحهم: مسيح ديكارت ومارتن لوثر وبابا روما. هنا يرتدي المسيح جلباباً شرقياً ويعتمر كوفية وعقالاً. ولكن بقدر ما تكون الصدمة كبيرة بقدر ما يكون كتاب مثل فولني وبرتران قادرين على الإفلات منها: فالقدس بالنسبة الى هؤلاء هي مدينة مثل اي مدينة أخرى. لكن لبنان الذي يكتشفه مارسيلوس (صيدا) ولامارتين (الذي يجول في كل نواحيه كما نعرف مسبقاً) ودي نرفال، هو أشبه بأسطورة رومانطيقية كبرى. ولكن رغم كل رومانطيقيته، لا ينسى بعض الرحالة من الكاثوليك الفرنسيين ان علاقات خاصة يجب ان تربط بلدهم بلبنان... الذي هو فردوس مسيحي بدوره.
> ومن لبنان الى دمشق التي يزورها، في الكتاب، ثلاثة: لامارتين وموريس باريس وشارل رينو. ومن دمشق الى مصر: ومصر للرحالة هي شيء آخر، هي الشرق لكنها افريقيا أيضاً... وعراقة التاريخ الموصل الى الفراعنة. وفي مصر يرى فولني وباتوسكي وسافاري ان نهاية ألف ليلة وليلة إنما تبدأ ها هنا، أي من الاسكندرية ومن الطريق الموصلة من رشيد الى القاهرة، ومن حدائق رشيد والملاحة على نهر النيل وحمامات القاهرة. لكن هناك رحالة آخرين يفضلون ان يتجاوزوا حكاية ألف ليلة وليلة هذه، لينظروا الى مصر نظرة اكثر واقعية في عهد محمد علي: فتوصف لنا المدن تباعاً: رشيد، القاهرة والاهرامات، الاسكندرية، دمياط، المنصورة، ثم يحدثنا فوربان عن مشاهد على ضفاف النيل وعن وادي الملوك، فيما يحدثنا ميشو بين آخرين عن قرى الدلتا وعن شتى انواع الترفيه في القاهرة.
> بيد ان مشهد العرس القبطي هو اجمل ما يصفه لنا هنا جيرار دي نرفال الذي يتحدث كذلك عن الدراويش وعن الاجانب وعن مسرح القاهرة ودكان الحلاق والموسكي... ثم يصف لنا غداء يشارك فيه في الكرنتينا. أما الجولة على مياه النيل فتحدثنا عنها الكونتيسة دي غاسبارين وفلوبير وفرومنتان. ونصل هنا إلى اسرار الفراعنة مع فولني وشفريون الذي يقوم برحلة رائعة وغريبة بين ممفيس والدندرة قبل ان يزور الكرنك ودير البحري والاقصر ووادي الملوك... إلخ.
> غير ان هذه النظرة السياحية احياناً، والحلمية احياناً، والأدبية الرومانسية في احيان اخرى، سرعان ما تترك المكان لحديث عن التفتيت الذي تمارسه الكولونيالية، فيحدثنا دي فلير عما حل بالاسواق الشعبية القاهرية على يد الانكليز، فيما يتحدث بيار لوتي عن موت القاهرة ومساجدها. ثم عن الضواحي في الليل: «الليل. زقاق مستقيم طويل، شريان عاصمة ما، حيث تجري عربتنا بصخب كبير وخبط على بلاط الشارع. النور الكهربائي في كل مكان. المخازن تغلق ابوابها... إذا لا بد ان الليل بات متأخرا وأن وقت الرقاد قد حلّ ومعه وقت الأحلام».
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق