بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 7 أبريل 2018

أنبياء مصر الجدد!

نشأت في مصر، وتأصلت، طريقة جديدة، عجيبة يجب أن نقول، من طرق العمل التلفزيوني. ونشأت معها، وتأصلت، فئة جديدة، عجيبة هي كذلك، من المذيعين ومقدمي البرامج. لا أعتقد أنها كثيرة المحطات التلفزيونية في العالم، التي تسمح لمذيع أو اثنين باحتلال ساعتين من الزمن التلفزيوني، وفي وقت الذروة، يقول خلالهما ما يشاء عمّا يشاء، ويفتي في قضايا محلية وإقليمية ودولية، ثم يمضي. وفي الغد يعيد الكرة. وفوق هذا، يبدو أن القنوات المصرية تمنح رواتب مجزية وامتيازات مادية مغرية للأنبياء الجدد الذين باتوا يتنافسون في ما بينهم ويتنافس عليهم المعلنون. 
الموضوع مثير للفضول ويطرح أكثر من سؤال: كيف يُسمح لهؤلاء المذيعين بكل هذا الهامش من الحرية في بلد مأزوم بمجتمع يغلي ومنطقة ملتهبة؟ الجواب، كما قد يرد، يكمن في أنهم ماضون في أسلوبهم «طالما لم يقتربوا من العرش ولم يغردوا خارج سرب الواقع السياسي الموجود». والحال أن هناك جهات عليا تشجعهم وتحميهم لأنهم بمثابة جيش تلفزيوني (على طريقة الجيوش الإلكترونية التي اخترعتها الأنظمة الديكتاتورية في السنوات الأخيرة).
الوجه الآخر للسؤال هو: كيف يسمح هؤلاء المذيعون لأنفسهم بكل هذه الأدوار الخطيرة من دون أدنى شعور بالمسؤولية، وبلا حرج أو حياء؟ ومن أين يأتون بكل تلك الثقة في النفس وكأنهم لا ينطقون عن هوى؟ الجواب، كما قد يأتي، يكمن في أن هؤلاء الرجال والنساء «يؤمنون بأنهم يؤدون واجبا وطنيا مقدسا، ولتذهب مفاهيم وأخلاقيات العمل الصحافي والتلفزيوني إلى الجحيم».
أحد هؤلاء المذيعين قال بالفم الملآن قبل أسبوعين ـ من بين ما قال ـ إن أمير قطر «باع» كورنيش العاصمة الدوحة لقوات حلف الناتو وهي الآن تمنعه عن العامة. وقال بثقة كبرى إن الجيش التركي أخذ قطعة من الكورنيش ذاته فلم يبق منه شيء. يحق للمرء أن يتساءل كيف يمتلك صاحب هذا الهراء كل هذه الجرأة على الإدلاء بكلامه هذا من على شاشة تلفزيون من دون أن يرف له جفن.
تناقشت مع صديق مصري على اطلاع جيد بالواقع الإعلامي في بلاده، فقلل من أهمية الأمر كله، وكان رأيه أن هؤلاء المذيعين لا مكان لهم في أوساط عوام المصريين المطحونين الذين يشكلون مصر الحقيقية. وقال إن برامجهم تلك لا يشاهدها أحد، وإن وُجد مَن يشاهدها فلا يوجد مَن يثق فيها ويصدق أصحابها. وقال بثقة إن الناس ستضرب هؤلاء المذيعين «بالجزمة» لو صادفتهم في الشارع!
كان رأيي أن هذه البرامج لها شعبية وجمهور، حتى في غياب دراسات علمية موضوعية وجادة. وحجتي أن هذه الشعبية، وإن قلّت، هي ما يفسر تنافس القنوات المصرية في تقديم ما يسمى برامج «التوك شو» حتى بات المضمون التلفزيوني في مصر وقت الذروة نسخة طبق الأصل. 
على منصات الإعلام الاجتماعي (يوتيوب مثلا) تبدو أرقام المشاهدة مرتفعة بوضوح. ويبدو أن المعلنين اقتنعوا بأن تلك البرامج هي الأنسب للترويج لسلعهم حتى باتت بعض الفواصل الإعلانية طويلة ومملة. 
وتحليلي أن تلك البرامج «ابنة بيئتها» وتناسب المزاج المصري.. تتحدث لغته وتنتقي موضوعاته وتدغدغ عواطفه وتلامس نقاط ضعفه. ثم نصل إلى الأهم وهو أن السلطة الحاكمة تؤمن هي الأخرى بأهمية هذه البرامج وبقوة الرسالة السياسية عندما تخرج عبر أحد أولئك المذيعين. لا يهم مضمون الرسالة بقدر ما يهم الرسول! السلطة (في مصر والدول التي تشبهها) تعرف سحر التلفزيون ومدى تأثيره على الناس، لذا تصون هذا النوع من البرامج وتجتهد في إبعاد عنها كل ما من شأنه أن يسيء إليها أو يطعن في مصداقيتها.
اكتملت الحلقة وتوفرت لهذه البرامج ومقدميها شروط الانتشار والتأثير. سيكون من ضروب المستحيل إقناع أي متابع بأن تلك البرامج مجرد ثرثرة بلا جمهور.
نظريا، وبالبناء على فرضية الشعبية، يستطيع أولئك المذيعون قيادة ثورة على من يشاؤون. وتستطيع تلك البرامج أن توجه المجتمع المصري كيفما شاءت. بيد أن الواقع عكس ذلك تماما. ففي الحالة المصرية لا تشكل تلك البرامج أي إزعاج لأحد. ولا يشكل مذيعوها أدنى خطر على أيٍّ كان. بل تحوَّلوا إلى أدوات لا تشرِّف العمل الصحافي والتلفزيوني.
يهمُّ التنويه إلى أن هذه البرامج تعيش على وجود أعداء. حتى إن لم يوجدوا، فيجب «خلقهم» من العدم. الأزمات والأعداء يزيدون شعبية المذيعين ويرفعون أسهم البرامج. في الغالب الأعم هم ذاتهم أعداء السلطة الحاكمة، مؤقتون ودائمون: مرة حماس الفلسطينية، ومرة أمريكا، ومرة الجزائر، ومرة إيران ومرة السعودية.. حسب الظروف والطلب. هذه الأيام دور قطر، ويبدو أنها ستبقى طويلا في مرمى النيران. لقد وفرت الأزمة الخليجية «دواما كاملا» لهؤلاء المذيعين، على الرغم من أن مصر مجرد كومبارس فيها.
*توفيق الرياحي- كاتب صحافي جزائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق