بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 23 أغسطس 2015

عن الصهيونية والله

«انا اسكن هنا وأنت تسكن في رعوت فقط بفعل الوعد الالهي بأن هذه الأرض أعطيت للشعب الاسرائيلي فقط». لخص المحادثة بيننا هذا الاسبوع مستوطن في هار حرشة (بؤرة استيطانية بجانب طلمون). كان هذا ادعاء متوقعا في جدال حول قانونية البؤرة، وطرح في ظل غياب اعتبارات اخرى مقنعة. الجانب الحقائقي والقانوني ليس الساحة البيتية للمستوطن القومي المتطرف المسيحاني وفرص الحسم فيه ضعيفة.
الادعاء اعلاه، الذي بات يُسمع اليوم من قبل اعضاء كنيست ووزراء كثيرين، يعكس قدرة الدين على منح المؤمنين اجابات مطلقة في جميع مجالات الحياة. ويخدم مؤيدي القومية المتطرفة المسيحانية، ومن بينهم البيت اليهودي وكذلك الكثيرين من الليكود، الذي يعملون على السيطرة على الصهيونية العلمانية وانجازاتهم، واعادة انتاجها حسب مبادئهم. حسب ادعائهم، الوعد الالهي لشعب اسرائيل بان يرثوا البلاد، والتجند من اجل ذلك، هو الذي سيبعث دولة اسرائيل وازدهارها، وليس خطوات الحركة الصهيونية وقرارات زعمائها.
حقيقة الايمان بالبعث من قبل المخلص الذي قيد فترة 2000 عام بأمر ديني «لا يجب تقريب النهاية»، هذه الحقيقة لم تبعث نهوض سيادي للشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ وانما بصدور وعد بلفور حول حق تقرير المصير، ومصادقة خطية من الانتداب عام 1922. لم تنجح هذه الحقيقة بزعزعة المبنى الايماني الذي يربط بنظر الايمانيين جميع الاحداث بالاله اليهودي، ولم يجد الحاخام كوك صعوبة في تملك وعد بلفور بقوله «انه بداية الانبعاث الذي يسير امامنا، كل شخص عاقل يتأمل داخله يكتشف ان يد الله تتحكم بالتاريخ، وهذه العملية سوف تستكمل».
القيادة العلمانية ـ هرتسل، فايتسمن، جابوتنسكي، بن تسفي، بن غوريون، شاريت وآخرون هي التي تبنت طموحات سياسية وعملت على تحقيقها في اطار حركة قومية. الصهيونية لا تهدم فرضية مؤيدي الحاخام كوك. ولم يرَ مؤيدو القومية المسيحانية بالعمل السياسي والاستيطاني للحركة الصهيونية خطوة ضرورية لبناء اقتصاد ومؤسسات الدولة التي على الطريق، وانما اشارة الهية لإنهاء المنفى وبداية الانبعاث.
لا يعنيهم أن الصهيونية العلمانية سعت إلى بناء مجتمع علماني كما هدد جابوتنسكي بشدة: «في البيت القومي سنعلن عن اولئك اليهود الذين لن يرفعوا عن أنفسهم المنفى ويرفضون حلق سوالفهم كمواطنين من الدرجة الثانية، ولن نمنحهم حق الانتخاب. برأيهم ان الصهيونية العلمانية هي حمار سيركب عليه الملك المخلص الذي سيبشر بالانبعاث.
هرتسيا، الذي هو الحاخام كوك الابن، حاول تفسير «المعجزة» الدينية باقامة الدولة. وحسب رأيه، قرار التقسيم لم يكن نتيجة للجهود السياسية الكبيرة للحركة الصهيونية، وتأتي الكارثة وتمركز اليشوف اليهودي في البلاد، وانما لان الله لين قلب امم العالم من اجل تأييد عملية الانبعاث. وعندما يأتي الانبعاث لا مكان للتراجع: «مثل غزالة الفجر ـ هكذا هو انبعاث اسرائيل».
حسب المسيحانيين، فان الانتصار في حرب الاستقلال ليس نتيجة لعمق الرؤية السياسية لبن غوريون وآخرين، تشدد أنيتا شابيرا بان البحث المتواصل لبن غوريون وآخرين عن التوقيت الصحيح لاقامة الدولة استند على معطيات وليس على معجزات: «في سنوات الـ 30 تحدث عن حلول مع العرب، ولكن في ذلك الوقت سجل في يومياته كل شهر، بهدوء وبالسر، احصائيات تقارن بين الشبان والفتيات في سن التجنيد ـ يهود وعرب، كم نحن بحاجة بعد من اجل ان نقف ضدهم».
الانتصار حسب المسيحانيين لم يكن سوى معجزة من الله، لانه هكذا فقط يستطيعون تفسير معجزة انتصار أقلية وضعفاء على كثيرين وأقوياء. الاعداد الدقيق للحاضرة اليهودية بقيادة بن غوريون ـ مثلما شرح ذلك في 1960 في الكنيست: «في الحرب الوجودية كان العرب منقسمين… كما انهم لم يكونوا مجهزين بالعتاد… وعندما جاء عتادنا كان افضل من عتادهم. وفضلا عن ذلك، وان بدا هذا مختلفا بعض الشيء، كان لنا في حينه جيش اكبر مما كان لهم ـ كان حقيقة تاريخية عديمة المعنى من ناحيتهم.
هكذا اصبحت حرب الأيام الستة ايضا معجزة الهية. وحتى الاستيطان في المناطق، سفينة العلم في مذهبهم ـ عللوه بحقيقة أن الحمار العلماني الذي يعمل في خدمتهم تغير فقط، و «لم يعرف من الذي يدعونه». الون، بيرس ورابين هم الذين دفعوا ابناء الكيبوتسات والموشافات إلى غور الأردن، حتى وإلم يكن ذلك بنجاح زائد. وبالذات شارون، العلماني والبراغماتي، كان هو الذي جعل المشروع الاستيطاني ما هو عليه اليوم، من خلال استغلال ضائقة السكن لدى الاصوليين ودحرهم نحو موديعين عيليت وبيتار عيليت ودحر العلمانيين ـ المهاجرين وابناء الطبقة الدنيا والطبقة الوسطى إلى معاليه ادوميم وارئيل. لم ينجح القوميون المسيحانيون في ان يقيموا حتى ولا مستوطنة واحدة يعيش فيها عشرات الاف اليهود. معظم مستوطناتهم صغيرة، منعزلة وتستند إلى دعم المنظومة الحكومية.
خلافا للجمود الفكري المسيحاني، الذي يعرف كيف يفسر سياق التاريخ فقط باتجاه التوسع الاقليمي المسنود بالامر الالهي، فان زعماء اسرائيل الهامين عرفوا كيف يتمسكون بالحلم الصهيوني للدولة الديمقراطية للشعب اليهودي في نقاط الحسم التاريخية، حتى حين كان هذا ينطوي على خطوات الانطواء. فقد تمكنوا من تصميم الواقع من خلال الفهم السليم له. فحص دقيق للظروف الديمغرافية والسياسية حرك بن غوريون للاكتفاء بخطوط الهدنة («الخط الاخضر») في 1949، وسحب الجيش الاسرائيلي من سيناء في 1956. هكذا حسم بيغن امر السلام مع مصر مقابل اعادة سيناء في 1979، واعاد رابين في الاتفاق مع الاردن في 1994 اراض استولت عليها اسرائيل في العربا. وانسحب باراك من جنوب لبنان في 2000 وبعد نحو خمس سنوات أخلى شارون الجيش الاسرائيلي والمستوطنات من قطاع غزة وشمالي السامرة.
في كل هذا تبين لنا، في ظل استياء القوميين المسيحانيين، انه لم يحصل أي تدخل الهي، ولا حتى في اللحظة الأخيرة، لمنع هذه الخطوات. فقد رأى هؤلاء الزعماء في الأرض الاقليمية لاسرائيل وسيلة لتلبية الاحتياجات السياسية، الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية المتغيرة للمجتمع الاسرائيلي، وليس هدفا مقدسا بحد ذاته وغير قابل للتغيير، يفوق كل اعتبار ومصلحة اخرى. كما أنهم لم يقدسوا الوضع الراهن كغولدا وشامير في زمانيهما، وكنتنياهو اليوم، بل اختاروا فعلا صهيونيا ايجابيا ومسؤولا.
بسبب الايمان الاعمى لاصحاب الفكر القومي المسيحاني في أن كل ما يحصل في الساحة السياسية الداخلية والخارجية هو تعبير عن تفضيلات الهية، وان القدرة على فهم سياقات الرعاية ممنوحة لهم فقط، فبفكرهم لا توجد أي حاجة للديمقراطية. «لقد حان الوقت لان تخلي مكانها»، قالت يهوديت كتسوفار. فضلا عن ذلك، فان اصحاب الفكر هذا ممن يدعون بان «كل موطيء قدم لنا، كل رفع يد يفتح ويغلق دوائر كهربائية تشعل اضواء في العوالم العليا، يطلبون كل التفضيلات والوسائل المالية. فقد ادعى النائب بتسلئيل سموتريتش في مقال نشره قبل سنة تحت عنوان «نستحق اكثر» فشرح، دون أي حرج، بأنه يجدر بالدولة ان تستثمر ميزانيات اكبر في تعليم الصهيونية الدينية. لماذا؟ لانه حسب اعتقاده من مهمة ابنائها ان يقودوا شعب اسرائيل.
الى اين يقودون شعب اسرائيل؟ لدى حنان بورات الجواب ـ إلى «اقامة مملكة كهنة وقداسة، اعادة المجد إلى صهيون، اقامة مملكة بيت داود وبناء الهيكل ـ كنقطة اولى لاصلاح العالم في المملكة». 
هذا الجواب، الذي قدم في 2008، كرر فقط ما كتب في 1974 مع اقامة غوش ايمونيم التي سعت إلى وقف التسويات السياسية المترافقة مع تنازلات اقليمية من الارض المحتلة، واستلام خيوط الجذب الصهيونية: «غوش ايمونيم قامت بهدف احداث بشرى جديدة قديمة بالاليات والانماط القائمة من اجل العودة لاعادة ايقاظ وتجسيد الصهيونية الكاملة بالفعل وبالروح… في ظل الاعتراف بان مصدر الحلم في ارث اسرائيل وفي جذور اليهودية، وغايته ـ الخلاص الكامل لشعب اسرائيل وللعالم بأسره».
في ذات الوقت فان قلة فقط فهموا حجم التهديد على الحلم الصهيوني، بمن فيهم رابين الذي كتب في 1979: «في غوش ايمونيم رأيت ظاهرة خطيرة للغاية ـ سرطان في جسم الديمقراطية الاسرائيلية. ضد فكرهم الاساس، الذي يتعارض واساس الديمقراطية الاسرائيلية، كانت ضرورة للكفاح فكريا، للكشف عن المعنى الحقيقي لمواقف الغوش واساليب عملها»؛ والبروفيسور يشعياهو ليفوفتش، الذي شرح بان المذهب المسيحاني سيؤدي إلى الانتقال «من الانسانية عبر القومية إلى الحيوانية» وسيجعل «شعب الرب» «شعب البلاد».
اليوم، في حكومات نتنياهو، اصبح النهج القومي ـ المسيحاني السياسة الرسمية. ممثلوه الواضحون يحملون حقائب وزارية هامة ـ التعليم، الثقافة، العدل، الأمن الداخلي، الهجرة، السياحة، بل والتمثيل في الامم المتحدة. تصريحاتهم وأفعالهم تصمم صورة اسرائيل في الرأي العام العالمي، يصدون ويبعدون عنها اصدقاءها الاقرب، ويتسببون بالتآكل المستمر في تأييد يهود الشتات. اما احتمال اعادة الصهيونية إلى مصادرها وورثتها الحقيقيين فمنوط بصحوة الجمهور اليهودي في اسرائيل من الوهم المسيحاني الذي هو من صنع الانسان والذي كله سياسة تجري بانماط قومية عنصرية مصابة بالفساد، وتهدد المستقبل الامني، الديمقراطي، الاخلاقي والاجتماعي لدولة اسرائيل.
هآرتس  - شاؤول ارئيلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق