بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 9 أغسطس 2015

◘ حبر وملح (الطبقة الرثَّة)

بلغ الاهتراء اللبناني مداه، لم يعرف اللبنانيون هذا المقدار من البؤس حتى في أسوأ سنوات الحرب بفصولها المتعددة المتعاقبة، يومها كان ثمة أمل معقود على رجاءِ خلاصٍ موعود بانتهاءِ الحرب مهما طالت، وقيام الدولة من تحت ركام المعارك، وعودة الحياة إلى سياق طبيعي محكوم بالقانون وبمبدأ الثواب والعقاب. لكن الحرب انتهت، أو شُبِّه لنا أنها فعلت، وبقي لبنان معلقاً على خشبة انتظار إقليمية دولية لم تأذن بعد بإنزاله عن صليب الأزمات. يستطيع المواطن اللبناني أن يفهم ارتباط كثير من أزماته الكيانية بنزاعات الإقليم وتوازناته معطوفة على نزاعات الطوائف وتوازناتها في الداخل، لكن ما هو غير مفهوم ربطُ لقمة عيشه وصحته وصحة أولاده ومستلزمات يومه البديهية بأزمات المنطقة ونزاعاتها!!
ثمة مأزق داخلي مزمن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بخللٍ بنيويٍّ عميق في النظام الطائفي، وبعجز الطبقة السياسية الحاكمة الغارقة في الفساد من رأسها حتى أخمص شعاراتها الجوفاء الفارغة. طبقة تبدو في الظاهر منقسمة على نفسها ومقسِّمة اللبنانيين عمودياً، لكنها في الجوهر متفقة متكافلة متضامنة على حماية مصالحها ونهب جيوب الناس ومصّ دم الفقراء، هؤلاء الفقراء أنفسهم الذين يشكلون حطب النار الطائفية المتقدة ووقوداً يلجأ إليه ساسةُ الفساد للدفاع عن مكاسبهم ومنافعهم. ولا عجب في القول أن فقراء الفريقين المتنازعين يتقاتلون لحماية مكاسب أثرياء الفريقين نفسيهما، اذ ثمة تقاطع مصالح وتقاسم مغانم سلطوية بطريقة أخطبوطية مفزعة، جعلت مستقبل اللبنانيين مرهوناً للمجهول.
في دول العالم المتقدمة يتم تحويل الزبالة إلى طاقة كهربائية، في لبنان نجحت الطبقة السياسية في تحويل الكهرباء إلى «زبالة»، اذ على مدى أكثر من عقدين من الزمن وعلى رغم بلايين أُهدِرت لا تزال الكهرباء شبه مقطوعة عن اللبنانيين الذين تأملوا بصيفٍ واعدٍ خالٍ من الأزمات الأمنية والتفجيرات فجاءتهم أزمة النفايات والكهرباء لتحول صيفهم جحيماً لا يُطاق في بلد يُفترَض أنه سياحي، علماً أنه لو كان كذلك فعلاً لعاش أهلوه فقط من مدخول قلعة بعلبك. بلدٌ أنعم الله عليه بطبيعة جميلة خلابة أشبه بالجنة وبطقس نموذجي بفصوله الأربعة، وبآثارٍ كفيلة بجذب السياح من أقاصي الأرض، ومؤخراً بثروة غازية ونفطية قادرة لو تمت إدارتها بشفافية وكفاءة وأمانة أن تسدّ دينه العام وتنقذ أجياله من الفقر، لكن على مَن تقرأ مزاميرك يا داود؟ ثمة طبقة حاكمة رثَّة لا هَمَّ لها ولا غاية سوى كيف تراكم أرصدتها من المال العام.
اللبناني المبدع فردياً في معظم المجالات، المُحِب للحياة، القادر على استيلاد الفرح من رحم المأساة، الناجح أنّى حلَّ أو ارتحل، يغدو عاجزاً فاشلاً محبَطاً مكتئباً حين يتعلق الأمر بالعمل الجَماعي أو الوطني إذا جاز التعبير. نادِه إلى تحركٍ لأجل الخبز والرغيف والماء والكهرباء لا يستجب سوى بضعة مئات، أَعلِنْ النفير الطائفي والمذهبي يأتِكَ مئات الآلاف. يمضي اللبنانيون السنوات الأربع من عمر مجلسهم النيابي وهم يشتمون نوابهم، لكن ما أن يُدق النفير إياه حتى يسارعوا لإعادة انتخاب النواب أنفسهم وإنتاج الطبقة السياسية الرثَّة إياها، في دوامة أو حلقة مفرَغة يبدو الأفقُ معها مسطوماً لا بصيص فيه. والواقع أننا سنبقى على هذا النحو، طالما ديدان الطائفية الفاسدة المفسِدة تلتهم ما تبقى من جسد الدولة المتآكل. والطامة الكبرى أن تكون الطبقة المرذولة على صورة المجتمع ومثاله، أليس كما تكونون يوَلَّى عليكم؟
ثمة بارقة يتيمة تتمثل في حراك شرائح من شباب مدني يتحلى بوعيٍّ لا طائفي، وهو وعي متى تزايد وتراكم قد ينجح في فرض «نسبيةٍ» ما على قانون الانتخابات، إذ أن النسبية وحدها كفيلة بإحداث خرقٍ في جدار الطائفية البغيض والسميك، وفي تحويل الانقسام العمودي المخالف للطبيعة إلى انقسام أفقي بين حكّام ومحكومين ومضطهِدين ومضطهَدين، ما يتيح إيصال بعض الكفاءات إلى المجلس النيابي من خارج المحادل الطائفية وصولاً إلى الحلم المنشود بإلغاء الطائفية السياسية، وهذه عملية شاقة طويلة وتراكمية تشبه حفر جبل بإبرة لكنها قطعاً ليست مستحيلة.
ما نود قوله لساسة لبنان بشقيهما الآذاريين: الكهرباء والمياه ومكافحة الفساد وكبح جماح الجريمة ومنع الإفلات من القانون وتأمين حياة يومية منتظِمة وكريمة، كلها جزء لا يتجزأ من العزة والكرامة، ومن السيادة والاستقلال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق